المراهقة..هذه المرحلة التي تتقاطع فيها الأسئلة الكبرى وتتكوّن فيها الملامح الأولى للهوية الشخصية، ربما لذلك ليس سهلاً أن تكون والداً أو مربياً لمراهق، ففي تلك السنوات الحساسة يبدو العالم أكبر من أن يفهم والمشاعر أقوى من ضبطها والتحكم بها، والقرارات مصيرية رغم حداثة السن.
فالمراهق يمر بتغيّرات جسدية ونفسية واجتماعية تجعل توازنه الداخلي غير مستقر، ويبحث خلالها عن من يفهمه لا من يحاسبه فقط ومن هنا تبرز الحاجة لفهم لهذه المرحلة لا بالاستهانة بها أو الإفراط في القلق تجاهها، بل باحتضانها بتفهم وصبر وبأدوات تربية تبني الثقة وتصقل شخصية قادرة على مواجهة الحياة لا الهروب منها.
هل مصطلح “المراهقة” مصطلح إسلامي؟
رغم شيوع مصطلح المراهقة في أدبيات التربية المعاصرة إلا أنه لا يُعدّ من المصطلحات الأصيلة في التربية الإسلامية، فالشريعة الإسلامية لا تفصل مرحلةً بين الطفولة والرشد تعرف بهذا الاسم، بل تعتمد على علامات البلوغ والتكليف والتي تبدأ بها مسؤولية الإنسان أمام الله والمجتمع، ومع ذلك فإن الإسلام لم يغفل التغيرات النفسية والعقلية التي تصاحب هذه المرحلة وإن لم يسمّها “مراهقة”
فنجد في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم أحاط الفتيان والشباب بعناية خاصة، فجعلهم جزءًا من المجتمع كلٌ بحسب نضجه واستعداده فربّى شخصيات مثل أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس منذ سن صغيرة، وغرس فيهم الثقة وتحمل المسؤولية.
وهذا يؤكد أن الإسلام يعترف بتغيرات هذه المرحلة ويتعامل معها بحكمة لكنه لا يحصر الإنسان في قالب نفسي هش بل يخاطبه على أنه قادر على النهوض وتحمل أعباء الدين والدنيا لذلك فإن استخدام مصطلح “المراهقة” اليوم ليس خطأً لكنه يحتاج إلى إعادة ضبط المفهوم في ضوء الرؤية الإسلامية التي توازن بين الرحمة والحزم وبين الفهم والتكليف.
ما هي تحديات مرحلة الانتقال نحو الرشد؟
حين يبدأ الناشئ خطواته الأولى نحو عالم الكبار،فإنه لا يمر بمجرد تغير جسدي، بل يمر أيضًا بتغييرات نفسية وفكرية معقدة.
إن هذه المرحلة – التي يطلق عليها بعض التربويين “مرحلة الانتقال من الطفولة إلى الرشد” تتسم بقلق داخلي كبير،وتساؤلات متلاحقة حول:
- الهوية.
- الحرية.
- المكانة الاجتماعية.
يبدأ الفرد في هذا العمر: بالشعور برغبة في الاستقلال، وفي الوقت ذاته يحتاج إلى التقبل والاحتواء.
يريد أن يُجرب ويُخطئ ويُعبّر عن رأيه، لكنه في الغالب لا يعرف: كيف يطلب ما يحتاج إليه، أو كيف يوازن بين اندفاعه الفطري وخبرته المحدودة.
يواجه الناشئ في هذه المرحلة عدة تحديات متزامنة، منها:
- ضغوط دراسية ومجتمعية،
- الحاجة لتحديد الهوية والانتماء،
- المقارنة المستمرة مع الآخرين،
- التقلبات المزاجية الناتجة عن التغيرات الهرمونية،
- ومشاعر الغضب أو الحزن أو الوحدة التي قد لا يجد لها تفسيرًا.
كما يبدأ بالتفاعل بوعي أكبر مع العالم الرقمي،
حيث تنعكس صور مثالية قد تؤثر في:
- ثقته بنفسه.
- أو تصوراته عن الحياة.
ومن أخطر ما يواجهه الناشئ في هذه المرحلة:
عدم فهم البيئة المحيطة له لتقلباته هذه؛
فحين:
- يُعامل كطفل في وقت يبحث فيه عن إثبات ذاته،
- وحين يُطالَب بالنضج دون أن يُمنح أدواته،
تنشأ فجوة بينه وبين الأهل.
إن إدراك هذه التحديات وفهم دوافعها هو الخطوة الأولى التي تساعد المربين في:
- مد جسور التواصل مع أبنائهم،
- لا سيما حين يُنظر إلى هذه المرحلة لا باعتبارها “أزمة”، بل فرصة لبناء إنسان ناضج ومتزن.
بناء شخصية قوية وثقة بالنفس في هذه المرحلة الحساسة
في مرحلة الانتقال نحو الرشد لا يحتاج الناشئ إلى النصائح والتوجيهات بقدر ما يحتاج إلى من يؤمن به، فالشخصية القوية لا تُبنى بالصوت المرتفع ولا بالقوانين الصارمة، بل تنمو في بيئة يشعر فيها الفرد أنه مرئي لمن حوله، صوته مسموع وكلامه مفهوم، إن تعزيز الثقة بالنفس في هذه المرحلة ضرورة تقي الناشئ من الانكسار أمام الضغوط، والانجراف خلف المؤثرات السطحية.
إن الأسرة تلعب الدور الأهم في هذه العملية من خلال رسائلها اليومية الظاهرة والخفية، فحين يرى الناشئ أن أهله يثقون برأيه حتى لو لم يوافقوه، يبدأ بتقدير ذاته، وحين يسمح له بأن يشارك في اتخاذ قرارات تخصه ويُعطى مساحة ليعبر عن مشاعره دون سخرية أو تقليل من شأنها فإن شخصيته تنمو بشكل سليم.
عرّف الدكتور عبد الكريم بكار في برنامجه تنمية الشخصية الثقة بالنفس هي إدراك المرء لإمكاناته وميزاته، واعتقاده بقدرته على إنجاز ما ينجزه المتفوقون.
ومن الوسائل الفعالة في بناء الثقة: إشراك الأبناء في وضع الأهداف الشخصية، والاحتفال بالإنجازات الصغيرة قبل الكبيرة، وتوفير مساحة آمنة للخطأ والتعلم، كما أن تشجيع الأبناء على التجربة بدل الخوف من الفشل يغرس فيهم جرأة صحية تساعدهم في بناء استقلاليتهم تدريجيًا.
إن الطفل الذي ينشأ في بيئة تشجعه على طرح الأسئلة وتمنحه شعورًا بالقبول غير المشروط يتحول تدريجيًا إلى شاب يدرك قيمته ويثق بخياراته ويستطيع أن يواجه مشاكله دون انفعالات.
دور التربية في تشكيل شخصية الناشئ
إن التربية في هذه المرحلة تتجاوز مجرد التوجيه لتهتم أكثر بجانب الإصغاء والتأثير غير المباشر، فالشخصية لا تصاغ بالمواعظ بقدر ما تتشكل في التفاصيل اليومية التي قد لا ننتبه لها غالبة، في طريقة حديث الوالدين وفي ردود أفعالهم، وفي تعاملهم مع الخطأ والصواب، إن الناشئ يراقب أكثر مما يستمع، ويقلّد أكثر مما يطيع لذا كان للأهل الدور الأهم في تكوين ملامح شخصيته الأولى.
حين يكون الأب قدوة في احترام نفسه واحترام الآخرين، وحين تتعامل الأم مع المواقف بانضباط واتزان، فإن هذه السلوكيات تترسخ في لاوعي الناشئ وتصبح قوانين خفية في نفوسهم يقتدون بها دون شعور ودون توجيه مباشر من الآخرين، وحين يكون يشعر المراهق أو الناشئ بالاحترام والاعتبار داخل البيت، فلن يبحث عن إثبات ذاته في أماكن خاطئة خارج البيت.
ونذكر من الأدوات التربوية الفعالة في هذا السياق أيضًا: الإشادة بالصفات والسلوكيات الإيجابية بدل التركيز فقط على الأشياء السلبية، والاهتمام بإبداء الثقة في قدرات الابن حتى قبل أن يثبتها، والتعامل مع الفشل على أنه فرصة للتعلم، كما أن مشاركة الأهل لأبنائهم تجاربهم الشخصية بما فيها من مشاكل وأخطاء تصنع جسورًا من الثقة والصدق وتفتح باب الحوار والمشاركة بينهما.
استراتيجيات دعم الناشئ في التعامل مع الضغوط النفسية
كلنا نعلم أن الضغوط النفسية في هذه المرحلة ليست بسيطة حتى وإن بدت كذلك للكبار، فالمشاعر متضاربة والرغبة في إثبات الذات، والخوف من الفشل أو الرفض، كلها تتزاحم في عقل شاب لم تكتمل أدواته بعد، لذلك فإن دعم الأهل لا يكون فقط في تقديم النصائح بل في خلق بيئة يشعر فيها بالأمان والقبول غير المشروط.
أحد أهم أشكال الدعم هو الاستماع دون تهديد أو تقليل من شأن الآخر أو مشاعره، فعندما يتحدث الابن أو البنت عن مشاعرهم حتى تلك التي تبدو مبالغًا فيها أو “سخيفة” فإن الإصغاء الجاد يعزز ثقتهم بأنفسهم ويشعرهم أنهم مهمون، لا يعني هذا الموافقة على كل شيء بل يعني منحهم مساحة آمنة للبوح والتفكير بصوت عالٍ دون خوف من السخرية أو العقوبة.
كما أن الحديث عن القلق والحزن يجب ألا يكون من المحرمات، حين يرى الشاب أن والده أو والدته يعترفان بوجود مشاعر صعبة في حياتهم، ويشاركانه كيف يتعاملان معها سيتعلم أن الضعف الإنساني ليس عيبًا بل جزءًا من مراحل حياة الإنسان وجزء مهم للنضج، ولعل أهم ما يحتاجه في هذه المرحلة هو أن يعرف أنه ليس وحده، وأن ما يشعر به مفهوم ومقبول، وأن هناك دائمًا بابًا مفتوحًا في البيت يمكنه الرجوع إليه دون خوف، هذا اليقين وحده كفيل بأن يخفف عنه جزء كبير مما يثقل صدره.
الخاتمة
ختامًا علينا أن ندرك أن فهم التغيرات التي يمر بها الناشئ في هذه المرحلة الحساسة ليس شيئًا ثانويًا بل ضرورة تمس جوهر العلاقة بين المربّي والابن، وإن بناء شخصية قوية وثقة بالنفس لا يتمان بين ليلة وضحاها بل عبر مسار طويل من الحوار والاحتواء والسماح بالخطأ والتعلّم منه.
في عالمنا هذا الذي تتسارع فيه الضغوط يحتاج الناشئ إلى من يؤمن به قبل أن يطلب منه أن يؤمن بنفسه.. يحتاج إلى من يرى الضوء فيه لا من يضيّق عليه بسبب عثراته، إن التربية الواعية لا تحاول السيطرة على هذا الجيل بل تحاول أن تبني فيه وعيًا يُرشده حتى إذا ابتعد عاد بإرادته وإذا اختار اختار بقناعة.
لذلك فإن أهم ما يمكن أن نقدمه في هذه المرحلة هو أن نكون حاضرين فعلًا: نصغي حين يتكلم، ونربّت على قلبه حين يتألم، ونحتفل بتقدمه مهما بدا بسيطًا، فربما لا يعبّر الآن لكنه سيتذكر لاحقًا من كان له سندًا في وقت تشكيل وصقل شخصيته.