بقلم: د. سيف الدين عبد الفتاح
شاعت مقولة “الناس على دين ملوكهم” في كتب التراث والأمثال، بل وشاعت في الأدبيات السياسية التراثية ووردت في مقدمة ابن خلدون، ومن قبله في “البداية والنهاية”، و”سراج الملوك”، وكذا كتاب “الفخري في الآداب السلطانية”. ويبدو أن المقولة مع انتشارها لم تحظ بالتحليل الكافي، وخضعت لتوجهات التأويل المختلفة التي ارتبطت بها، وصارت، من دون وعي؛ من أهم المداخل التي تؤكّد على مركزية الحاكم والسلطان، وترسّخ من هامشية الشعوب ودور الجماهير في الوقت ذاته، وهو أمر يشير إلى ضرورة النظر في تلك المقولة وتفكيكها من خلال تلك المداخل المختلفة والتأويلات المتنوعة والمآلات التي ترتبت على الأخذ بكل تلك التفسيرات، حتى أن بعضهم أراد أن يضع هذه المقولة حديثا شريفا عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن المختصين في الحديث أكّدوا أنه حديث لا أصل له، بل أكّد الشيخ ناصر الدين الألباني أن “الحديث معناه غير صحيح على إطلاقه (..) فقد حدّثنا التاريخ تولي رجل صالح عقب أمير غير صالح والشعب هو هو!”
من المهم في هذا المقام أن يشار إلى أن معظم كتابات التاريخ المشهورة ظلت في حقيقة الأمر أسيرة الحديث عن تاريخ السلطة والملوك والسلاطين، واكتسبت شهرتها من خلال الكتابة عن ذلك، وندرت الكتابات التي تنشغل بتاريخ المسلمين والحضارة الإسلامية من خلال مداخل التاريخ الاجتماعي والثقافي والحضاري، وما يتركه ذلك من دلالات سياسية، ولعل هذه المداخل كانت من أهم اقتراباتٍ أسهم فيها بعض المستشرقين في دراسات المجتمع والثقافة، وأحسنوا في التوجه إلى المصادر المختلفة من كتب الطبقات والأعيان والعلماء، والكتب التي تنشغل بمؤسساتٍ فاعلةٍ في المجتمع وتاريخ المدن، وكذلك أيضا كتب الرحلات التي أرّخت للصفات الغالبة على بعض الشعوب وغير ذلك من أمور.
ومن هنا، يشير التوقف عند مقولة “الناس على دين ملوكهم” من منظور ضمن كتابات تاريخية إلى التمركز على كتابة تاريخ السلطة والسلطان، لا تاريخ الشعوب والكيانات والتكوينات الاجتماعية والثقافية، وحتى هذا الكتيب المهم “مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر”، لأحمد بن إسحاق اليعقوبي، كاتب التاريخ، ورغم ملمحه المهم الذي وسّع المسألة ولم يقصرها على الملوك أو الحكام، ظل يتحلق حول مفهوم الخلافة والملك والسلطان أيضا، إلا أن من المهم أن يشار إلى إسهام اليعقوبي، حينما اختار عنوانا مختلفا ومخالفا لتلك المقولة، وهو “مشاكلة الناس زمانهم”، فإن الأمر الذي يتعلق بمشاكلة الزمان أوسع من ذلك الأمر الذي يجعل الناس تبعا لملوكهم وسلاطينهم. ورغم دقة المقولة التي أكّد عليها اليعقوبي في عنوان كتابه، إلا أنها لم تترك تأثيرها الكافي على طبيعة المعالجة لهذه القضية التي تثير المسألة التي تتعلق بالتقليد والعلاقة بين الغالب والمغلوب، والعلاقة ما بين السلطة والشعوب وحال المحاكاة التي يغلب على حال العصر المرتبط بسلطةٍ معينة أو بزمان بعينه. وفي هذا الإطار، القضية المحورية التي يمكن أن نضع فيها كل تلك المقولات، على اختلافها، تحت عنوان “التبعية”، وما تقود إليه من تقليد أعمى يمكن أن يشكّل أهم عناصر حالات القابلية للاستبداد والمستبدّين، وهي مسألة خطيرة، حينما يكون هذا التأويل مبرّرا للظاهرة الاستبدادية من خلال تلك المقولة التي تدّعي وصفا للحال، بحيث لا يمكن الخروج عنها أو آثارها في هذا الإطار. ومن ثم، فإن أمثلةً كثيرةً تناولتها تلك الكتب تكشف أن الناس يميلون إلى هوى السلطان واختياره، تقرّبا منه أو انصياعا لسياساته وأجهزته وأعوانه.
وقد يدعم ذلك تركيز مجهر الاهتمام لهذا النهج التاريخي الذي ساد في الكتابات التاريخية متعلقا بالسلطة والملوك، إلا أن هذه المقولة، “الناس على دين ملوكهم”، في حقيقة الأمر، لا تخلو من فائدة في التحليل الاجتماعي والثقافي، وقد فطن إلى ذاك عبد الرحمن الشقير الذي اتخذ من دراسته وتحقيقه كتاب اليعقوبي مدخلا إلى التأكيد على تلك الرؤية، ففي كتابه “مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر: مع مقدمة نظرية في علم اجتماع المعرفة في التراث العربي”، أكد أن “نظرية اليعقوبي الاجتماعية عن انتشار الأفكار في المجتمع وصناعة التأثير على المزاج العام، ظلت كامنة لم يكشف عنها، إضافة إلى إشارات المؤرّخين له. ويعد هذا الكتاب من تراث تاريخ الفكر الاجتماعي، وهو من أوائل المؤلفات العربية في العلوم التي تعنى بأفكار الإنسان العادي في حياته اليومية”.
ومن هنا علينا أن نؤكد على أهمية هذا التحليل الثقافي والاجتماعي لمثل هذه الكتابات، وكذلك الاستفادة من كتابات المستشرقين، والتي كان لها من عمق التناول في مصادر أخرى، ومنها تلك المدرسة التي تتعلق بالتاريخ الاجتماعي، كما أن من المهم الاستفادة من دراسات تقدم رؤية أعمق وأدق مثل كتابات خالد فهمي، وخصوصا كتابه “البحث عن العدالة: القانون والطب الشرعي في مصر الحديثة”، وكتابات الباحث النابه محمد سعيد عز الدين، بالإضافة إلى مدرسة تيموثي ميتشل، خصوصا في كتابه “حول استعمار مصر”، وتلامذته الذين تبعوه، وكذا في كتاب جيمس سكوت “المقاومة بالحيلة” الذي يعد مهما ومتميزا في هذا المقام. ولا يُنسى في هذا السياق برتران بادي الذي ربط بين السياسة والاجتماع، مقتفيا أثر نهج التاريخ الاجتماعي، فكانت كتاباته المهمة “الدولتان”، و”الدولة المستوردة”، وكتابات أسبق له مثل “سوسيولوجيا الدولة”.
من هنا، نحن أمام مقولة “الناس على دين ملوكهم” التي تؤول تسويغا للاستبداد ومركزية السلطة وتهميش دور الشعوب وإرادتها والجماهير وفاعليتها، وهو أمر يجعلنا ندرس هذا الشأن في سياق المدخل المهم المتعلق بالظاهرة والقابلية لها، أي الاستبداد والقابلية للاستبداد، من دون أن نهمل أن تلك الجماهير والشعوب قادرة على أن تسهم في عمليات التغيير الاجتماعي والسياسي، من خلال حركة شعبية واعية، قد تتخذ أشكالا متعدّدة من احتجاجات أو ثورات. أما دراسة الجانب الاجتماعي في هذا، وغلبة الطابع الذي يتعلق بالنخبة الموالية للسلطة وتشبّهها بالمستبد ودعمه في ذلك فهو أمر من الوضوح بمكان، ولكن وجب ألا يُعمَم على عموم الناس، فهو من الأخلاق السائدة في الزمان وفي العصر، وهذا شأن آخر.
ولا يسعنا إلا أن نستحضر مقولة الشيخ محمد الغزالي، رحمة الله عليه، التي تفضح الاستبداد والمستبدّين، والذين ركنوا إليهم أو برّروا لهم “كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس أو ترضيهم بالدون من المعيشة أو تقنعهم بالهوان في الحياة أو تصبرهم على قبول البخس والرضا بالدنية، فهي دعوة فاجرة يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعي وإرهاق الجماهير الكادحة، فهي خدمة فرد أو أفراد، وهي قبل ذلك كله كذب على الإسلام، وافتراء على الله”؛ ومقاومة الطغيان باعتبارها حقا أصيلا للشعوب، لا يجعل من مقولة “الناس على دين ملوكهم” تمثّل حالة جبرية أو ظاهرة حتمية.
….
- المصدر: موقع العربي الجديد
- 2022/04/29