طروادة المعاصرة: القضيّة بوابة الخيانة الناعمة
بقلم: هبة عنتر
لقد أحسن الغرب، أو بالأحرى “الرّجل الأبيض”، في توجيه البوصلة الإسلامية. وكما يفعل الساحر، صرف أنظار الشعوب المقهورة عن جوهر الطريق، وأدار وجوههم نحو القبّة! حتى أصبحت القبّة ــ أي القضيّة الفلسطينيّة ــ قِبلة القلوب، ومركز الولاء، والمِيزان الذي تُوزن به المواقف. فمن وقف معها فهو الصادق الأمين، وحُصرت الخيانة في الخذلان الواضح البيّن.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن الخذلان، واللّهاث خلف مخلّفات أصحاب ربطات العنق، والتّعامي والتّآمر على أصحاب البذلة والبندقية، فهؤلاء الذين ارتضوا عيش الدّنية خارج الحديث، وإنّما خطابنا لأصحاب القلوب الرّقيقة، المُصفّقة لكلّ عمل ظاهره الإنسانية والرّحمة وباطنه الشّر والمكر؛ حيث تختلط عندهم المفاهيم، وهنا تكمن الفتنة الخفية، الفتنة التي لا تُرى في الشوارع بل تتسرّب في القلوب… حين تُختزل الأمّة في قضيّة، والدّين في موقف، ويُقيم الناس بعضهم بعضًا بميزان الحماسة لا بميزان الإيمان، ويتحوّل الانتماء إلى “القضية” بديلاً عن الولاء لله والدّين، فثمّة تحوّل في البوصلة، وخيانة ناعمة تُصفّق لها الجماهير.
فالقبّة مهما عظمت مكانتها في الوجدان والدّين، ليست القبلة! وإنّ القضيّة على قُدسيتها ليست معيار الهدى ولا محكّ الصلاح. إنّ الإسلام هو القبلة، وهو البوصلة، وهو الميزان الذي توزن به سائر القضايا، ومن دونه ينقلب الموقف فخًّا، ويُصبح الشّرف واجهة يُمرَّر من خلفها الهدم الناعم.
إن من سذاجة الفكر، ومجافاة العقيدة، أن نُعليَ من شأن من مسح أقدام المسلمين أو قدّم خطابًا لطيفًا عن غزّة، بينما هو نفسه يحارب فطرة الله في الأسرة، ويروّج للهرطقة تحت مسمّى الحريّة والإنسانية.
فالدّفاع عن القضية واجب، ولا يعطي لأحد صكوك البراءة. فالمسألة ليست موقفًا سياسيًا يُصفّق له، بل مشروعًا كاملًا يُوزن بميزان الله. والإنسان لا يُقيّم بنقطة ضوء واحدة، إن كان باقي جسده يتنفّس ظلمة وانحرافًا، وإلّا، فإنّ هذا التّبضيع في فهم الدّين، والتجزيء في تقييم الناس وأخذ ما يوافق الهوى هو من التّبليس، وهو مدخلة الهرطقة المعاصرة.
لقد تحوّلت القضايا العادلة إلى حصان طروادة تُمرَّر من خلاله أجندات مائعة، وقيم مقلوبة، فحرّفت الفطرة وشانتها، وارتدت عباءة المقاومة لتخفيَ تحتها طعنًا في الإسلام وثوابته. وتحت لباس الشّرف، أُُعطيَ طهر القضيّة لمن لا طهر له، واختلطت القبّة بالقِبلة!
إنّ القبّة عظيمة، لكنَّ القبلة أعظم، والقضيّة شريفة، لكنّ معيار الشّرف الأوحد هو الإسلام. فلا ينبغي أن يُختزل الصّلاح في موقف سياسيّ، ولا أن يُمنح وسام النّقاء لمن كان مع القضيّة وهو ضدّ الإسلام.
إنّ الأمّة حين تفقد “المعيار الرّبّانيَّ” للحكم على الأمور، فإنّها تضلّ وإن كانت مُخلصة، وتُخذَل وإن رفعت الشّعارات. فليس كلّ ناصرٍ مؤمنًا، ولا كل مؤمنٍ ناصرًا إلّا إن صحّت وجهته واستقامت قبلة قلبه.
إنّنا بحاجة إلى وعيٍ يَزن المواقف بميزان العقيدة لا العاطفة، ويُفرّق بين النّصرة السّياسيّة والنّصرة الإيمانيّة، حتّى لا نجعلَ من شرف القضيّة مطيّةً لكلّ دخيل، ولا نستبدل قبلة السّماء بقبّة الأرض.
فلنُعِد بوصلة الوعي إلى حيث يجب أن تكون: إلى دين الله الكامل، إلى الميزان الذي لا يميل. فالحقّ لا يُجزّأ، ومن ناصر قضيّةً ولم يُناصر الدّين، فإنّ نصرته ناقصة، وموقفه ملتبس، وموازينه مختلّة، وإن رفع راية النُّصرة، فما دامت رايته لا تهتدي بنور الوحي، فهي ظلّ لا أصل له.
إنّ لله دينًا لا يرضى أن يُمزّق باسم النّبل، وللحقّ طريقًا لا يُختصر في الشّعارات، بل يُمهّد ببصيرة، وولاء، وثبات، وإيمانٍ لا يتلوّن بموجات العاطفة، بل يستقيم على صراط الله المستقيم.