الكاتبة هبة عنتر
إنّ التّحرير لا يساوي التّمكين، بل إنّ المعركتين مختلفتان وإن اشتركتا في بعض التّفاصيل والأولى مكمّلة للأخرى وسابقة لها. وفي عصر الثّورات من جهة، والسّرعة من جهة ثانية ، اختلطت الأمور على الإنسان الثّوريّ؛ فظنّ أنّ سقوط النّظام، وكسر صولجان الملك ، كفيلان ببناء المدينة الفاضلة، تلك المدينة الحلم الّتي ثار من أجل تحقيقها واقعًا.
غير أنّ السّائح في بطون الكتب، النّابش للتّاريخ، يدرك أنّ غرق الفرعون لم يكن تمكينًا لبني إسرائيل، وأنّ تحرير العبيد في أمريكا لم ينتهِ بتمكين نسلهم في اليوم التّالي. كما أنّ انتصار الثّورة في إيران وفرنسا وروسيا وغيرها لم يعنِ استتباب الأمن ولا تحقّق الطّموحات في صباح اليوم التالي؛ فلم تكن الشّمس أكثر سطوعًا، ولا السّماء أزرق مما كانت عليه، ولا الناس أكثر ابتسامًا… ولم تُزِل رقصةُ الفرح عفنَ السّنين المتراكمة من القهر والظّلم.
إنّ النّظرة السينمائيّة لطبيعة الثّورة ومآلاتها، وتناقضها الصّارخ مع الواقع، دفعت الكثيرين للكفر بالثّورة وتخوينها وإسقاطها، لأنّهم ظنّوا أن انهيار النّظام وحده هو الغاية القصوى، وأنّه كافٍ لإطلاق فجر جديد.
لكنّ السّير في التّاريخ يثبّت الحقيقة: التحرير ليس التمكين.
فالتمكين ليس إسقاط الملك، بل إسقاط القابليّة للاستعباد من نفوس الثّوّار. وتلك لا تكون إلّا بتحرير الإنسان من عبوديّة الإنسان إلى عبوديّة ربّ الإنسان. وإنّ هذه الرحلة أشدّ وأطول؛ فالمسافة من يثرب إلى المدينة أطول وأثقل من المسافة من المدينة إلى مكّة!
ما دام الإنسان أسير الرّوح، مستَعبَد الفكر، فإنّ التحرير لن يكون إلّا ظاهرًا، والثورة ستخرج مبتورة، تُنتج طاغيةً جديدًا بلغة جديدة ووجه مختلف.
بين ثورات الأمس وربيع اليوم
نالت شعوبنا العربيّة من الاستحياء والتّنكيل ما نالت، وشبّت أجيال تحت السّوط والحذاء، حتى تملّك كلّ حاكم عربيّ شيئًا من فرعونيّة. نشأ جيل يشتاق الرّبيع، فملامح الوجوم على وجوههم كانت تصوّر غليانًا داخليًا، وأمنيات بحياة بلا قيود ولا إرهاب ولا استخفاف بالإنسان.
وحين ثار البركان، واقتلع الفرعون وهامان، علت الصّيحات: “وللحرية الحمراء باب…”. وتهلّلت الوجوه، وشُفيت صدور طال قهرها.
حتّى ظنّ الناس أنّ الرّغد قاب قوسين أو أدنى، وأنّ سقوط الصّولجان سيحوّل البلاد إلى فردوس أرضيّ، لكنّ الحلم تحوّل كابوسًا، واندلعت النار في الجنّة المنشودة، فغدا الرّبيع صريمًا.
لم يكن ذلك لفشل الثّورة، بل لقصور نظر الثّائرين. فالواقع ــ كما التّاريخ ــ يخبرنا أنّ التّمكين غير التّحرير. فبنو إسرائيل لم يُمكّن لهم إلا في عهد طالوت عليه السلام، أي بعد أجيال من سقوط الفرعون. والثّورة الفرنسية استقرّت بعد سنوات من الفوضى والثورات المضادة. وسقوط القيصر الرّوسي، وتربّع الحزب الشّيوعيّ، كان نتيجة رحلة موحلة موجعة. وحتّى الثّورة الإسلامية في إيران خاضت معركة طويلة لبناء الإنسان، وكان الخمينيّ معلّمًا يصنع الإنسان قبل أن يصنع الدولة.
سوريا مثالًا… لا استثناءً
الخلاصة أنّ من ظنّ أنّ انتصار الثّورة ــ في سوريا مثلًا ــ يعني حتميّة بناء المدينة الفاضلة مجرّد سقوط النظام، فهو واهم. فالثورات المضادة، والاضطرابات اللّاحقة، وتزعزع الاستقرار، سننٌ من سنن الله في التّغيير. والتّمكين اختبار جديد يخضع له الثّوار، لا يُنتصر فيه إلا ببناء الإنسان الجديد؛ إنسان بلا عفن، بلا ترسّبات، بلا قابلية للاستلاب.
وإلّا فستكون الثورة مجرّد “عرض أزياء”: يتغيّر الظّاهر، أمّا الباطن فسيظلّ على حاله وينهض الطاغية من رحم الثورة نفسها..