بقلم: أ. وفاء اليمني
بعد مرور عشر سنوات من انتشار “فيروس النرجسية” في العالم، يطرح السؤال حول تأثيره على شكل البشرية. هل يمكن العثور على أفراد غير مصابين بهذا الفيروس، أم أصبح اتهام النرجسية مجرد موضة؟ هل يمكن أن يتحول إلى وباء؟ وما الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتفادي هذه الكارثة؟
السؤال الأهم: هل يمكن تجاوز النرجسية الجوهرية التي يعتقد فرويد أنها لا يمكن تجاوزها؟ في كتاب يحمل عنوان “وباء النرجسية”، يؤكد المؤلفان جين توينغي وكيث كامبل على ارتفاع مستمر في النرجسية، مما يستدعي التفكير فيها كوباء عام، وفقًا لنتائج مقياس الشخصية النرجسية ، وتشير دراسة أمريكية إلى انتشار اضطراب الشخصية النرجسية بنسبة تتراوح بين 1 إلى 5% من سكان المجتمع.
الشخصية النرجسية ليست مجرد غرور، بل مشكلة نفسية تتطلب التدخل المتخصص والتقييم لاكتشاف حالات اضطراب الشخصية النرجسية (NPD) فالتعامل مع شخصية نرجسية يمكن أن يكون تحديًا صعبًا، وتظهر بعض العلامات التي تشير إلى وجود علاقة مع شخص من هذا النوع:
- السحر الساحر: يظهر الشخص ساحرًا ومثيرًا في البداية، لكنه يتحول إلى شخص يلوم الآخرين عند حدوث أي تحول سلبي في العلاقة.
- التفاخر المفرط: يتباهى الشخص بإنجازاته وذكائه باستمرار لجذب الاهتمام والثناء، ويرفض الاستماع إلى آراء الآخرين.
- احتياج إلى الثناء: يعتمد الشخص على إطراء الآخرين لشعوره بالقيمة الذاتية، ويفتقد إلى احترام ذاته بدون الثناء.
- نقص التعاطف: يظهر قلة التفاعل مع مشاعر الآخرين، ويظهر اهتمامه بذاته فقط، مما يؤدي إلى علاقات مضطربة.
- فقدان الصداقات الطويلة: يبدأ الشخص في التغيير بعد فترة من العلاقة، محاولًا التلاعب وتشويه الحقائق لتخفيف تقدير الشريك لذاته.
- الفشل في التعامل مع النقد: يظهر رفضًا لأي نقد أو اعتراض، ويشعر بالغضب أو الاكتئاب حين مواجهته بآراء أو حقائق قد تعكر صفو عالمه.
توجد عدة أسباب لظهور الشخصية النرجسية، منها:
- الوراثة والبيئة: قد يكون للعوامل الوراثية دور في تكوين شخصية نرجسية، خاصة إذا كان تاريخ العائلة مليئًا بالمشاعر السلبية مثل الانعزال والخوف والرفض.
- أسلوب التربية: يلعب أسلوب التربية دورًا هامًا، كالاهتمام الزائد أو الإهمال المفرط.
- تأثير الوالدين: شخصيات الآباء والأمهات تلعب دورًا كبيرًا، فإذا كانت لديهم شخصيات مضطربة نفسيًا ونرجسية، فإن هذا يمكن أن ينعكس على الطفل ويؤدي إلى تطويره لشخصية نرجسية.
- صدمات الطفولة: تجارب الصدمات في الطفولة قد تلعب دورًا في تشكيل الشخصية مما يؤدي الى اكتساب سمات الشخصية النرجسية كوسيلة للتكيف.
- تأثير وسائل التواصل الاجتماعي: عالم السوشيال ميديا يوفر منصة للأفراد لعرض أنفسهم بشكل افتراضي، مما يمكن أحيانًا من بناء شخصيات افتراضية تعبر عن الكمال مختلفة عن الواقع الحقيقي مما يجعله يدخل في صراع نفسي.
- التوترات الاجتماعية والاقتصادية: قد يكون الضغط الاجتماعي والرغبة في التفوق في المجتمع الرأسمالي وسوق العمل هو نقطة الانطلاق لبناء شخصية نرجسية، حيث يرتبط الاستحقاق بالكمال.
ويمكننا تميز الشخص النرجسي من خلال عدة طرق :
منها طريقة اكتشفها علماء النفس في الولايات المتحدة وهي سؤاله مباشرة حول درجة نرجسيته، وذلك باستخدام مقياس من سبع درجات ، وقد طُلب من بعض المتطوعين تقدير نسبة نرجسيتهم على هذا المقياس، وأظهروا أن الأفراد الذين يعترفون بنرجسيتهم قد يكونوا فعلًا كذلك، ويشعرون بالفخر بذلك، حيث لا يعتبرونه أمرًا سلبيًا ويرون فيه جانبًا إيجابيًا يجعلهم أفضل الأشخاص ولكن الفيلسوف الإسلامي الغزالي قال : لا يمكننا ان نحكم على شخص نرجسي باستخدام العقل النظري الذي لا يتحكم فيه الإنسان بإرادته فلابد امتلاك مستوى وعي عالي لتميز الشخص العادي من الشخص النرجسي ولهذا قال مقولته المشهورة: أن الحكمة هي النور الذي يلقيه الله في قلب الإنسان ليكون مستعدًا لفهم الأمور.
ولمعرفة كيفية الإصابة بهذا الوباء من الناحية السيكولوجية
فإن الشعور بالوحدة والخوف الذي بات يعاني منه نسبة كبيرة من المجتمع بمختلف طبقاته وبعدم معرفتهم بكيفية التعامل مع تلك المشاعر يجعلهم يحاولون إخفاء تلك المشاعر عن طريق تضخيم الذات(الأنا) لحماية انفسهم ويعتبر نفسه العالم كله بمعنى أنه الأفضل، فلن يكون هناك عالم خارجي قادر على إثارة خوفه. وإذا رأى نفسه هو كل شيء، فلن يشعر بالوحدة. لذا، عندما يتعرض درعه الوحيد ضد الخوف (تضخيم الذات) للتهديد، يظهر الخوف بشكل مفرط، مما يؤدي إلى غضب مفرط.
وهذا يمثل عقبة خطيرة تتجه نحو اتجاهين خطيرين:
الأول: على المستوى الفردي يصبح الفرد غير مبالٍ لاحتياجات ومشاعر الآخرين، ويظهر انعزالًا اجتماعيًا وعدم تعاون مما يعرضه للاكتئاب يتمثل في زيادة نرجسيته لتجنب تأثير النقد أو الفشل على مركزه المركزي، وهذا قد يؤدي إلى تفاقم حالته النفسية مما يحاول شفاء ذاته من تهديد الاكتئاب عبر تزايد شدة مرضه العقلي الى حد قد يصل الى الذُهان
والثاني: على المستوى الجماعي وهو الأخطر على الاخرين يشمل تحويل الواقع الى حد يتوافق فيه مع صورة ذاته النرجسية وقد لاحظنا هذا السلوك في بعض القادة حيث اتسموا بنرجسية قوية وتجلى ذلك في حالة هتلر الذي يُعتبر مثالًا بارزًا على النرجسية الجماعية، من خلال إصراره على جعل الملايين يؤمنون بصورته وتصوراته المتضخمة في فترة ألفية الرايخ الثالث، وعندما انهارت صورة ذاته النرجسية اضطر الى قتل نفسه،وهناك امثلة كثيرة في تاريخ وحاضر القادة المصابين في جنون العظمة الذين شفوا نرجسيتهم عبر تحويل العالم ليتناسب معها.
ومنذ عصر النهضة، شهدت القوتان النرجسية والحركة الإنسانية تطورًا متزايدًا، حيث تقدمت كل منهما بشكل منفصل عن الآخر. للأسف، فإن تطور النرجسية الجماعية تجاوز إلى حد كبير تطور الحركة الإنسانية، وخاصة في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة. كانت هناك توقعات بظهور حركة إنسانية دينية وسياسية، ولكن لم تتحقق هذه التوقعات، وظهرت بدلاً منها أشكال جديدة من النرجسية الجماعية، سواء كانت قومية أو عرقية أو سياسية، مما أدى إلى نشوء حروب عالمية وإقليمية ودولية، مما كان له أثر سلبي على الحركة الإنسانية.
لمواجهة هذه الظاهرة:
لابد من الرجوع إلى فهم الواقع من وجهة نظر إسلامية وإصلاح الخلل في التطبيق والممارسات الإيمانية في مختلف الميادين وزيادة الوعي السياسي والإيماني بالتعامل مع جميع الدول كأمة إسلامية واحدة تقوم على الحق بعيدا عن العصبية والامل الكاذب الواهم وقبول الاستبداد والتنازل عن الوحدة والولاء لله ورسوله والتمسك بالقيم الأخلاقية وتطوير مهاراتنا الفكرية الموضوعية والنقدية والتحليلية لتحقيق التغيير في العالم وجذب الآخرين لدعم الفكر المنهجي الصحيح ومواجهة الميل النرجسي،على سبيل المثال، في الثقافة الشرقية، تُعتبر قيمة الحياء من الصفات الحميدة، بينما في دول الغرب، يُعتبر حياء الشخص ضعفًا وعدم ثقة بالنفس، مما يسهم في زيادة نسبة النرجسية لديهم.
ومن أنواع النرجسية:
النرجسية الحميدة تشجع على العمل الفردي وتحفز على الإبداع، بينما تكون النرجسية الضارة مرتبطة بامتلاك مميزات معينة دون التركيز على التطوير الشخصي أما النرجسية السلبية تتسبب الكآبة والشعور بالعدمية والزيف، وتظهر في شكل الوساوس المرضية الجسدية والاهتمام المفرط بالصحة والجوانب الأخلاقية بينما تكمن النرجسية الإيجابية في الشعور بالسعادة والرضا تجاه الذات، مما يساعد على تجاوز اللحظات الصعبة والإخفاقات دون التأثير السلبي على الصحة النفسية
العلاج:
العمل على تغيير النرجسية والانتقال لمتلازمة الانحلال الى متلازمة النمو يتطلب جهداً كبيراً من الشخص نفسه، وقد يكون التحول صعبًا ويستغرق وقتًا طويلاً. العمل مع أخصائي نفسي قد يكون مفيدًا في هذا السياق، حيث يمكن للمساعدة الاحترافية أن تقدم أدوات واستراتيجيات للفرد لتطوير الوعي بالذات وتحسين العلاقات الشخصية.
والنهج الإيماني جلي وواضح في قول الشاعر:
نَهجا قد ميّز الرّحمن بينهما *** نهجُ الضلال والحقِّ والرّشدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على *** نهجِ الفساد ولا صِدقاً على فَنَدِ
فالجوهر الأساسي في العلاج يكمن في اتباع المنهج الرباني من كتاب الله و السنة الشريفة ، إذ يعتبر الدين دين وسطية، مما يعني أهمية إدراك كيفية العيش بتوازن بين نزعتي الخير والشر بداخلنا وكيفية التعامل مع جوانبنا الإيجابية والسلبية فاختلال التوان بين الميلين هي فقدان للعيش بحرية، أن كل ما في الكون مسخر لنا ونستحقه بما نختار والوعي بان وراء كل اختيار اختبار و تحمل مسؤولية فالخير يقوم في تحويل الانسان الى اقرب ما يمكن الى فطرته السليمة وجوهره والتمتع بالحكمة القلبية التي هي أساس الصحة النفسية المتوازنة اما الشر هي خسارة الانسان لنفسه ومحاولة للانتكاس والتخلص من المنطق والحب وهذا صراع ضد الحياة.
وتحسين تفكيره من خلال النقد الذاتي وتصحيح المغالطات في تصوراته الذهنية ومعتقداته، والتحرر من سطوة الماضي او المستقبل من خلال الوعي الذاتي المستمر بالحاضر بالإضافة إلى توجيه النظر إلى الأخرين بعين الكرم والمحبة. والتحلي بالأمانة والعدالة والاحترام المتبادل والصدق مع نفسه ومع الاخرين واخلاص النية لله وكل ذلك يحتاج الى تدريب وبناء في مدرسة الإسلام فتلك القيم الدينية والمبادئ الأخلاقية والروحية تعمل على التغيير الإيجابي في نهجه وتفكيره والخروج من التجارب بفهم أعمق ووعي أوسع والشعور بالسلام الداخلي والرضا النفسي والتوازن بالعلاقات بدلا من الخوف والشعور بالوحدة المسببة للنرجسية مصداقاً لقوله سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فصّلت (46).
واخيراً في الواقع يمكن لقلب الانسان أن يقسو وقد يصبح غير إنساني الا أنه مع ذلك لا يكون أبداً غير بشري وجميعنا تحددنا وتقررنا حقيقة اننا ولدنا بشراً وبالتالي هنا تنبع مهمتنا الأبدية في اتخاذ خياراتنا لذلك يجب ان تكون الأهداف والوسائل وفق المعيار الإيماني الذي لا يدعو الا للخير ويجب أن لا نعتمد على انقاذ أي شخص لنا بل وعينا لحقيقة ان الخيارات الخاطئة تجعلنا عاجزين عن انقاذ أنفسنا فلابد ان نتمتع بوعي الذات وبذل الجهد من أجل ان نختار الخير الا أنه ليس هناك من وعي يساعدنا إذا فقدنا قدرتنا على الإحساس بمصيبة كائن بشري اخر وبالنظرة الودودة اتجاه شخص اخر فإذا أصبح الإنسان لامبالي بالحياة لن يكن هناك أي امل باختياره للخير ومن ثم يصبح القلب قاسياً إلى الحد الذي ستنتهي الحياة بسببه وإذا كان هذا ما سيحدث للجنس البشري بأكمله او لأفراده الأكثر قوة فستكون الحياة قد انقرضت في اكثر لحظاتها أملاً وهذا ما يعيشه النرجسي
….
المصادر:
- كتاب المنطق والمعرفة عند الغزالي د.عُلام إبراهيم ديناني
- كتاب جوهر الإنسان إريش فروم
- كتاب على أبواب القدس د.عدنان علي رضا النحوي