بقلم: أ. محمد علي النجار
لقد بذلت المرأة المسلمة في العصر النبوي جهودا شتى في خدمة الدعوة وساهمت بنصيب وافر في صناعة المجتمع المسلم وقامت النساء في تلك الفترة الذهبية من تاريخ الإسلام بأعمال جليلة في شتى ميادين الحياة المدنية والعسكرية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بتربية الرجال والنساء على السواء دون تفرقة بينهم، وكان يخصص لكل منهم ما يحتاج من الوقت ليتفقه في دين الله ويتعلمه.
نساء خالدات:
وقد حفظت لنا كتب السيرة الشريفة مجموعة من الأسماء اللامعة التي كان لها أثر واضح في تلك المرحلة من الدعوة الإسلامية، منهن السيدة خديجة رضي الله عنها التي كانت خير عون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، ومنهن سمية زوجة ياسر أول شهيدة في الإسلام وزنيرة الرومية التي أسلمت وفقدت بصرها في مكة ثم رده الله إليها، وكان من النساء اللواتي ذكرن في المرحلة المكية فاطمة بنت الخطاب التي وقفت شامخة في وجه أخيها عمر قبل أن يدخل الإسلام وكانت سببا في إيمانه.
ومن النساء اللواتي كان لهن أثر كبير في مكة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وقد كانت تحضر الطعام لرسول الله صلى عليه وسلم وأبيها وهما في غار حراء، وحفظت بيت أبيها بعد هجرته.
وفي المدينة اشتهر العديد من النساء منهن أم سليم أم أنس بن مالك التي أسلم أبو طلحة على يدها، وسفيرة النساء أسماء بنت يزيد الأنصارية وعائشة الصديقة والخنساء ونسيبة بنت كعب المازنية وغيرهن رضي الله عنهن جميعا.
مشاركة النساء في العصر النبوي:
لقد كانت أعظم عبادة تؤديها المرأة المسلمة في ذلك العصر حسن تبعلها لزوجها وصون شرفها وتربيتها لأولادها على الإسلام الحنيف، وقد أضافت النساء في تلك الفترة على أعمالهن في بيوتهن أصنافا من الجهود العظيمة في خدمة الدين والأمة، وكان من أشهر أعمال النساء في تلك الفترة الخروج مع جيوش النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته للإشراف على خدمتها، روى البخاري بسنده إلى الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ)، وفي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا غَزَا فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى).
وبعضهن شارك في القتال منهن أم عُمارة نسيبة بنت كعب المازنية التي خرجت مع زوجها وولديها إلى غزوة أحد وشاركت في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وجرحت جروحا كثيرة.
وكان كثير من النساء يعملن في الزراعة أو التجارة أو الصناعات اليدوية وكانت منهن السيدة زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها التي كانت تعمل في الجلود وتتصدق، ولهذا أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصدقة اتقاء نار جهنم.
بل روي ما هو أكبر من ذلك إذ روي عن سمراء بنت نهيك رضي الله عنها أنها: كانت تدخل الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وفي يدها سوط، وقد استعمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته الشفاء على حسبة السوق.
انكفاء المرأة:
من الملاحظ في القرون الأخيرة انكفاء المرأة المسلمة واعتياد الناس عليها كعنصر سلبي في المجتمع مهمته العمل في البيت فقط وفي أفضل الأحوال مساعدة الرجل في الزراعة، حتى إن كثيرا من المجتمعات كانت ترى تعلم المرأة القراءة والكتابة والعلم عارا على راعي البيت، لأن ذلك قد يجرها إلى الحرام حسب ما يظنون. ولكن مع تقدم المجتمعات الإنسانية بدأت المرأة تأخذ دورا أكبر في الحياة، بينما بقيت بعض المجتمعات المسلمة متأثرة بالعادات والتقاليد التي تحجم دور المرأة وتمنعها من خدمة الدين والدنيا في الميادين التي تحسنها.
لقد كان أفراد المجتمع النبوي رجالا ونساء أكثر فاعلية في بناء الأمة مما عليه المسلمون اليوم، وإننا اليوم بحاجة إلى العناية بالرجال والنساء على حد سواء ليكونوا يدا واحدة في خدمة المجتمع المسلم، وإننا كلما تقدم الزمان بنا وجدنا هذا الأمر ضرورة لا غنى لنا عنها.
كثيرة هي الأسباب التي تدفعنا للعمل على تدريب المرأة المسلمة وتأهيلها بحيث تكون قادرة على إدارة شؤونها بنفسها، والعمل على تكليفها بجزء من حاجات المجتمع المسلم المادية والمعنوية الدينية والدنيوية منها، وسأكتفي بذكر ثلاثة أسباب تدفعنا لذلك، منها:
الأول: إشغال المرأة بالأهداف السامية.
إن المجتمع العربي والمسلم يتعرض اليوم لأنواع شتى من الفتن والإغراءات وكثير من ذلك يتوجه إلى المرأة بقصد إفسادها وتدمير حياتها وجرها إلى الطمع والجشع مرة باللباس المبهرج وأخرى بأدوات التجميل وأحيانا بأشياء البيت والمطبخ وما إلى ذلك.. وإن المرأة إذا لم تنشأ على هدف سامٍ يملأ عليها قلبها وحياتها ويشغلها عن الاهتمام بسفاسف الأمور فسيكون قلبها طوعا للفتن والإغراءات. إن القلب الفارغ مستعد دائما لأن يمتلئ بكل ما تنتجه الحضارة المادية من ملاهي تفسد الحياة، بينما تجد المرأة المشغولة بهموم دينها وأمتها أو حتى بأمور عملها؛ في شغل شاغل عن هذه التفاصيل الهابطة التي تملأ حياة الناس اليوم.
إن المرأة التي وضعت نصب عينيها تفقيه الناس بدين الله أو تعليم أطفالهم وتنشئتهم على الصلاح أو التعاون مع النساء الأخريات في مساعدة الفقراء والمحتاجين لن تستطيع الحضارة الغربية أن تفتنها، ولن تستطيع إغراءات الحياة أن تسقطها، ولهذا فنحن محتاجون إلى وضع أهداف دينية أو دنيوية سامية لنسائنا تملأ حياتهن في كل مراحلها في الطفولة والشباب والشيخوخة، حفاظا عليهن من الانحراف أو إضاعة الوقت بما لا ينفع.
صعوبة العيش ورفع قدرات المجتمع المسلم:
كلما تقدمت بنا الأيام كلما ازدادت متطلبات الحياة، وكثيرة تلك العوائل التي تعاني الفقر أو صعوبة العيش، وعندما تكون المرأة قادرة على مساعدة زوجها ستكون حياتهما أيسر وأكثر جمالا.
إن من أخطر أمراض المجتمع المسلم اليوم سلبية المرأة، وتحولها من منتجة إلى مستهلكة ومن فرد مسؤول إلى فرد غير مبال يبذر المال والوقت دونما هدف، وإن المرأة المسلمة المتدينة تعاني من ضعف الفاعلية في كل ميادين الحياة ومن ضمنها العمل، وإن الإسلام لم يحرم عمل المرأة بل حثها على الإنتاج وأثنى على النساء العاملات، وأحد أهم أركان النهضة الإسلامية اليوم أن تتحول المرأة المسلمة من “امرأة مستهلكة” إلى “امرأة منتجة” ضمن الشروط والضوابط الإسلامية العادلة، وفي السنة النبوية نماذج سامية للمرأة المسلمة المجاهدة في سبيل رزقها وعائلتها.. ومن أشهر هؤلاء النساء السيدة رائطة زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، روى الإمام أحمد بسنده إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَة َعَنْ رَائِطَةَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأُمِّ وَلَدِهِ وَكَانَتْ امْرَأَةً صَنَاعَ الْيَدِ، قَالَ: وَكَانَتْ تُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ مِنْ صَنْعَتِهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لَقَدْ شَغَلْتَنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ عَنْ الصَّدَقَةِ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَصَدَّقَ مَعَكُمْ بِشَيْءٍ! فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ أَجْرٌ أَنْ تَفْعَلِي. فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت:ْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ ذَاتُ صَنْعَةٍ أَبِيعُ مِنْهَا وَلَيْسَ لِي وَلَا لِوَلَدِي وَلَا لِزَوْجِي نَفَقَةٌ غَيْرَهَا، وَقَدْ شَغَلُونِي عَنْ الصَّدَقَةِ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ فَهَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِيمَا أَنْفَقْت؟ُ قَالَ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: ((أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَإِنَّ لَكِ فِي ذَلِكَ أَجْرَ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ)).
وقد كانت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من عائلة تجارة غنية، فزوجها أبوها لرجل مسلم فقير هو الزبير بن العوام رضي الله عنه، ولكن أباها قبل ذلك رباها على الفاعلية والعمل فبذلت جهدها لتعين زوجها في حياته، وقد فعلت وبنت برفقته حياة مليئة بالمكرمات والأبناء الشرفاء وكان لهم أثر كبير في الصدر الأول من الإسلام في ميادين العلم والجهاد.. تتحدث السيدة أسماء عن ذلك فتقول: ((تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ)).
إن التعاون بين المرأة والرجل ثقافة والمجتمعات الفقيرة أكثر حاجة لهذه الثقافة، ففي مصر وحدها قريب ثلاثين مليون شاب وفتاة بلغوا سن الزواج ولم يتزوجوا بسبب تكاليف الزواج والسلبية عند نسبة من الذكور أو الإناث على السواء، كل منهم ينتظر عمل الآخر وتقديمه أكثر، وفي ذلك كارثة كبيرة على المجتمع، وإن المشكلة التي تظهر بشكل واضح في مصر هي مشكلة مشتركة في كثير من الدول الإسلامية وإن كانت بنسب أقل، وإن انتشار ثقافة التشارك في إنشاء الحياة والبيت والعائلة ضمن ضوابط العمل الشرعي الذي يحمي المرأة من الاستغلال والاختلاط المحرم كفيلة بتجاوز نسبة كبيرة من هذه المصائب التي تعصف بمجتمعاتنا.
فوارق العمل بين المرأة الشرقية والغربية:
قد يقول قائل إن كثيرا من النساء يعملن وقد سبقن الرجال في بعض البلدان، فما هو الفرق بين واقع المجتمعات اليوم وأهداف الشريعة؟
إن الشريعة لم تجعل عمل المرأة أساسا من أسس المجتمع كما هو حال المجتمعات الغربية المادية، فالمرأة المسلمة مكفيّة بنفقة من يعولها، وإنما هدف إلى تربية المرأة المسلمة تربية سليمة تكون معها قادرة على أن تكون عنصرا فعالا في المجتمع المسلم بغية إرضاء الله وخدمة عائلتها لا بغية جمع المال والاستكثار منه، وإن المرأة المسلمة إذا رأت في عملها طاعة لله من إعانة زوج وإعالة أطفال يتامى عملت إرضاء لله وكفا للنفس عن سؤال الخلق، ولم تعمل لتجمع المال وتتباهى ثم تصرفه فيما لا ينفع أو تدخره لتتفاخر به على الفقراء.
كثيرات أولئك النساء اللواتي يعملن، لكن اللواتي يرَيْن عملهن نوعا من الدعوة والالتزام وطاعة الله قليلات، وهذا الفارق بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، كما أن المرأة التي تعمل استجابة للشرع ستبذل كل جهدها للوصول إلى بيئة شرعية في العمل ترضي الله ورسوله بينما المرأة الأخرى هدفها المال الأكثر بغض النظر عن الآداب والأخلاق والضوابط السامية، وليس في هذا محاولة لانتقاص نساء مجتمع ما – حاشا لله – ولكنه بيان لواقع غربي صنعته أظافر الرأسمالية الجشعة التي فرضت نمط حياة ظالم على المرأة الغربية، وتحاول فرضه في بلادنا أيضا.
يروي لنا كتب السيرة أن السيدة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها كانت امرأة فاعلة في مجتمعها صاحبة صنعة تعمل وتبيع وتتصدق، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ((أسرعكنّ لحاقا بي أطولكنّ يدا)). قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نمدّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ أنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما أراد طول اليد بالصدقة، وكانت زينب امرأة صناع اليدين، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق به في سبيل الله)). وعندما توفيت أم المؤمنين زينب قالت عنها السيدة عائشة: ((لقد ذهبت حميدة متعبدة مفزع اليتامى والأرامل)).
توقع المصائب:
إن الحرب التي حصلت في العراق وسوريا فتحت عيون المسلمين على واقع جديد لم يكن في الحسبان يوما، لقد استشهد الكثير من الرجال في الحرب أو تحت القصف العشوائي الذي طال مناطق السنة، فترملت مئات ألوف النساء وتيتم أضعافهن من الأطفال.
وإن الأرامل بعد هذا على قسمين نساء قادرات على تحمل المسؤوليات من عمل وبحث عن الرزق وحماية لشرفها وأولادها، وقسم آخر عاجز عن تدبر أمره والحفاظ على العائلة وقد تعرض هذا القسم من النساء لأنواع شتى من الضغوط والابتزاز والامتهان أو حتى الضياع.
إن المرأة الضعيفة لو أن أباها وزوجها ساعداها على تحمل المسؤولية في السلم؛ لوجدت لنفسها وأطفالها حصنا منيعا من الزلل الذي تعرضت له في حياة اللجوء والتشرد في بلدان الجوار.
إن هذا الواقع المرير الذي عايشته شعوب إسلامية عدة يحتم علينا أن نربي بناتنا اليوم على محورين، الأول: التربية الإيمانية الصالحة التي تعتمد المبادئ الإسلامية السامية أساسا في تكوينها، والثاني: التربية الاجتماعية والمهنية التي تمكنهن من الحفاظ على العائلة وإدارة شؤونها داخل البيت وخارجه في حال غياب المعيل أو فقده في الظروف العصيبة التي قد تواجه المجتمعات المسلمة يوما.
….
- المصدر: موقع رابطة العلماء السوريين
- 2021/01/14