بقلم: د. يوسف القرضاوي (رحمه الله)
كما أن من مزالق الاجتهاد في عصرنا عند بعض الناس: انسياقهم وراء الواقع القائم، واستسلامهم لتيارات العصر، وإن كانت دخيلة على المسلمين ومناقضة للإسلام ـ ومحاولتهم تبرير هذا الواقع بإعطائه سندًا من الشرع اعتسافًا وقسرًا ـ فإن في مقابل هؤلاء قوما يريدون أن يجتهدوا في غفلة عن واقع هذا العصر، وما يمور به من تيارات، وثقافات، وما تتمخض عنه أيامه ولياليه من مطالب ومشكلات.
إما لأنهم حبسوا أنفسهم في سجن التقليد لمذهب معين لا يخرجون عن أقوال علمائه: فضيقوا على أنفسهم فيما وسع الله عليهم، وألزموا أنفسهم بما لم يلزمهم به الله ورسوله، وخالفوا أئمة المذاهب أنفسهم، الذين نهوا عن تقليدهم.
وإما لأنهم عاشوا في الماضي وحده، دون معاناة للحاضر، ولا استشفاف للمستقبل، فهم داخل القفص الذهبي “قفص التراث” محبوسون طوعًا واختيارًا ناسين أن الحاضر يتكلم بلسان غير لسانهم، فكيف يفهمون عنه، ويفهم عنهم؟ فهم في واد، وعصرهم في واد آخر. وكيف يحكمون لهذا العصر أو عليه، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما يقول علماء المنطق؟!
أو لأنهم يعيشون في دوائرهم الخاصة مع من يشبههم من أهل الدين والورع، غافلين عما تحفل به الحياة من غرائب، وما تلده الليالي من عجائب وما يفرضه التطور السريع من أوضاع، تدخل إلى حياة الناس جهرة، أو تتسلل إليهم خفية، منها المستقيم ومنها الأعوج، وفيها الصواب والخطأ، والخير والشر وكلها تتطلب اجتهادًا يُبين حلالها من حرامها، وحقها من باطلها.
وأيًا كانت الأسباب فإن الغفلة عن روح العصر وثقافته وواقعه، والعزلة عما يدور فيه، ينتهي بالمجتهد في وقائع هذا العصر إلى الخطأ والزلل. وهو ينتهي غالبًا بالتشديد والتعسير على عباد الله حيث يسَّر الله عليهم. كالذين حرَّموا ذبح “المجزر الآلي” وأوجبوا أن يكون الذبح باليد والسكين المعتادة ولابد.
وقد يليق هذا بمجتمع بسيط قليل العدد، قليل الاستهلاك للإنتاج الحيواني، أما في المجتمعات الكبيرة، وحيثما يكون الإنتاج الحيواني بمئات ألوف الرءوس، ويراد ذبحها للاستهلاك المحلي أو التصدير الخارجي؛ فالأمر يحتاج إلى هذه المذابح الآلية، التي تقوم فيها “الماكينة” مقام الإنسان فتوفر جهده ووقته.
وإذا كان المحذور هنا هو عدم التسمية عند كل ذبيحة، فيمكن تسجيل شريط يعلن التسمية طوال مدة الذبح.وقد يجوز الاكتفاء بالتسمية عند بدء كل مدة نشغل فيها الآلة، كما نسمي عند إرسال الكلب أو الصقر أو السهم عند الصيد.على أن مذهب الشافعي لا يجعل التسمية شرطًا لصحة الذبح.
ومثل آخر: الذين اجتهدوا في قضية “أطفال الأنابيب” ومنعوها منعًا باتًا؛ خشية اختلاط الأنساب، وسدا للذرائع. وأقول هنا ما سبق أن قلته في مناسبة أخرى: إن المبالغة في سد الذرائع، قد تحرم الناس من خيرات كثيرة، ومصالح كبيرة، كما أن المبالغة في فتحها قد تؤدي إلى شر مستطير، وفساد كبير.
والواجب على أهل الاجتهاد هنا: ألا يبيحوا بإطلاق، ولا يمنعوا بإطلاق. فالمنع إطلاق فيه تحريم ما لم يُحرِّمه الله ورسوله، وتضييق على المكلَّفين في أمر لهم فيه سعة. والإباحة بإطلاق توقع فيما حرَّمه الله ورسوله، وتجر إلى مفاسد جمة. فلابد من التفصيل، بإباحة بعض الأساليب والصور بقيود وشروط، ومنع البعض الآخر.
وهذا ما انتهت إليه ندوة “الإنجاب في ضوء الإسلام” التي انعقدت في الكويت بين الفقهاء والأطباء، وكان قرار الأغلبية في هذا الأمر: أنه جائز شرعًا إذا تم بين الزوجين، أي كان الحيوان المنوي من الزوج والبويضة من الزوجة، أثناء قيام الزوجية فلا يجوز أن يتم ذلك بعد موت الزوج، أو طلاق الزوجة، وبشرط أن تراعى الضمانات الدقيقة الكافية لمنع اختلاط نطف الرجال أو بويضات النساء، فتختلط بذلك الأنساب.
واتفق الجميع على أن ذلك يكون حرامًا إذا كان في الأمر طرف ثالث، سواء كان منيًا من غير الزوج، أم بويضة من غير الزوجة، أم جنينًا من غيرهما، أم رحمًا من امرأة أخرى تقوم بالحمل عن صاحبة البويضة.
ونحو هؤلاء الذين اجتهدوا في تحريم التصوير الفوتوغرافي الذي اشتدت الحاجة إليه، وعمت البلوى به، وأصبح من الضرورات الاجتماعية في بعض الأحوال، كصور البطاقات الشخصية، وجوازات السفر، والشهادات الدراسية، وملفات الخدمة، كما أصبح أمرًا لازمًا للصحافة المعاصرة، ولم تعد تُقرأ صحيفة تقدم أخبارها واستطلاعاتها كلامًا بلا صور تؤيده وتبعث فيه الحياة.
وأكثر من ذلك “التلفاز” الجهاز الخطير الذي بات أقوى المؤثرات في حياة الناس، وتوجيه أفكارهم وميولهم وأذواقهم، ونقل العالم إليهم وهم في عقر بيوتهم.
هل يتصور أن نحرم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية من هذه الأداة الجبارة لأنها تقوم على التصوير، في حين يستخدمه أعداؤنا بقوة وجدارة، لما له من تأثير ساحر يجمع بين الصوت والصورة؟!
ومِن هذا النوع من الاجتهادات التي أغفلت واقع العصر: ما لا يزال بعض العلماء يرددونه من إباحة التدخين، بناء على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وما قاله بعض العلماء أول ظهور التدخين منذ قرون.
ولا ريب أن هؤلاء لم يتبين لهم ما تبين لنا في هذا العصر من أضرار التدخين التي أجمعت عليها الهيئات العلمية والطبية في العالم، وأُلِّفت فيها كتب، وعقدت لها ندوات ومؤتمرات، حتى أن شركات تصنيع “الدخان” وتعبئته غدت مُلزَمة بأن تكتب على علب “السجائر” أنها ضارة بالصحة.
إن المجتهد الحقيقي هو الذي يمثل الأصالة، ويمثل المعاصرة معًا. فلا ينقطع عن أمسه، ولا ينعزل عن يومه، ولا يغفل عن غده.
…..
- 2022-05-25
- المصدر: موقع د. يوسف القرضاوي