بقلم: أ. محمد سلامة الغنيمي
مقال يستعرض تاريخ الصراع الأيديولوجي في المجتمع العربي الحديث، مع التركيز على مصر، ويحلل جذور هذا الصراع وتداعياته على الأمة، مع تقديم نظرة على محاولات التجديد وأهمية الحوار والتربية في تجاوز الخلافات.
الصراع الأيديولوجي في مصر: بدايات وتطورات
بدأت ملامح الصراع الأيديولوجي في مصر في أواخر حكم محمد على، حيث آلت إليه السلطة بعد صراع مرير بين كلا من:
الفرنسيين، والشعب المصري، والمماليك، والعثمانيين،
لكن محمد علي استطاع الانفراد بحكم مصر من بين جميع المتصارعين. وبعد أن استتب له الحكم، تطلع إلى الانطلاق بمصر نحو التقدم على النهج الأوروبي. وقد رأى أن ذلك لن يتم إلا من خلال التعليم، ولكن التعليم في مصر آنذاك كان بعيدًا عن الواقع المعاصر، فكان لابد من الانفتاح الثقافي على الغرب المتقدم حضاريًا.
ورغم أن محمد علي كان رجلًا أميًا، إلا أنه كان يؤمن بأن تطلعاته للنهوض بمصر لن تتم من خلال النظام التربوي المصري القديم، الذي كان يعتمد على تدريس بعض كتب التراث في بعض الأماكن القليلة جدًا كالجامع الأزهر. وأن هذه التطلعات لابد لتحقيقها من الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا الشأن.
ولكن الغريب في الأمر أن محمد علي عمل على إلباس المجتمع التعليمي الإسلامي الثوب الغربي، مع المحافظة على الأصول الثقافية الإسلامية للمجتمع المصري، كما يبدو من المراحل التي اتخذها:
المرحلة الأولى: إرسال البعثات العلمية.
أرسل محمد علي البعثات العلمية الواحدة تلو الأخرى إلى العواصم الغربية المتحضرة، وجعل على كل بعثة قائدًا أزهريًا يحفظ لباقي الأفراد دينهم ودنياهم. وكانت أهم أغراض هذه البعثات:
- تكوين جيل من العلماء والمتخصصين
- ترجمة أصول الكتب في مختلف الفنون
وقد بلغ تعداد هذه البعثات في عصر محمد علي سبع بعثات، كانت الأولى إلى إيطاليا.
وقد كان محمد علي حريصًا على احتفاظ المبعوثين بأيديولوجيتهم الإسلامية وعدم التأثر بالغرب في هذا الشأن، ومما يؤكد على ذلك معاقبته لمن يتأثر بالإيديولوجية الغربية، كما فعل مع أدهم بك رئيس المدفعية الذي تأثر بالإنجليز وتزيا بزيهم وحاكاهم في عاداتهم وأحوالهم، فاستقدمه محمد علي إلى مصر فور أن علم بحاله.
المرحلة الثانية: استقدام الخبراء.
عمل على استقدام الخبراء من أوروبا لإنشاء المدارس في مصر والتعليم فيها، واتفق معهم في البداية على أن يكون هناك مترجم ينقل للطلاب بالعربية، ثم بعد ذلك شجعهم على تعلم العربية والتدريس بها. وبذلك احتفظ لمصر بأيديولوجيتها الإسلامية ولغتها العربية، ونقل إليها علوم الغرب، كما نقل الفاروق الدواوين عن الفرس والروم.
ومن هذا المنطلق، غرس محمد علي بذور نهضة مصرية إسلامية حديثة، تراعي تغيير الفروع، وتحافظ على الأصول التي لا تتأثر بتغير عاملي الزمان والمكان. وقد أثمر هذا الغرس عن تقدم ملحوظ في مصر في جميع المجالات، وظهور نخب إسلامية متحضرة أثرت الحياة آنذاك.
تدخل الغرب والصراع الأيديولوجي
ولكن الغرب المتربص لم يكن ليترك مصر تتقدم. وجاء الاحتلال الإنجليزي إلى مصر بقضه وقضيضه؛ ليوقف هذه الصحوة العلمية الصافية، ويقيم مكانها ما يضمن انقطاع مصر عن أصولها الإسلامية وزعزعة هويتها. فكان أول قرار اتخذه الاحتلال هو:
- إلغاء التعليم باللغة العربية
- فرض التعليم باللغة الإنجليزية
وأسس المدارس التي وضع الاحتلال مناهجها، وعين مدرسيها من المستشرقين والمستغربين؛ لتسهيل عملية الغزو الثقافي للنخب المصرية. لأن الاحتلال كان يدرك حتمية انتهاء الاحتلال وتطلع الشعوب للخلاص منه، ومن هنا عمل بكل جهده على تسريع وتيرة الغزو الثقافي من خلال:
- التشجيع على التحاق أبناء النخب بالمدارس التي أقامها
- توظيف الخريجين في المناصب المرموقة بأجور مرتفعة
- تجاهل خريجي الأزهر وهم من أبناء العامة والفلاحين، ويوظفهم في أماكن غير مؤثرة وبأجور متدنية
- دعم وتنظيم حملات التنصير والاستشراق
وكان نتاج ذلك خروج نخب مصرية تحمل أيديولوجيات بأسماء عربية وقلوب غربية، شكلت التيار الأيديولوجي اليساري في مصر، والذي كان يهدف إلى تغريب المجتمع المصري وفصله عن الثقافة الإسلامية بالجملة في الظاهر والباطن.
ظهور تيارات المحافظين والصراع المحتدم
في المقابل، انتصب لهم تيار المحافظين من خريجي الأزهر الشريف، والذي رفض الحضارة الغربية بإيجابياتها وسلبياتها. لكن هذا التيار ركن إلى نظرية المؤامرة – وهي حقيقة – لكنها ليست مبررًا لرفض الاستفادة من تجارب الآخرين، كما استفاد سلفنا من الفرس والروم.
ومن هنا بدأ الصراع الأيديولوجي في مصر، ثم انتقل منها إلى أقاليم العالم الإسلامي. وظل هذا الصراع قائمًا حتى بعد طرد الإنجليز والحصول على الاستقلال. ومن ثم آلت السلطة في مصر وغيرها إلى الجيوش القومية، لكن السلطة آنذاك انحازت إلى اليساريين وروّضت المحافظين الذين ليس لهم طموح في السلطة السياسية، بينما نكّلت بنخب الإسلام السياسي، وذلك للأسباب الآتية:
- اليساريون لم يكن لهم طموح واضح في انتزاع السلطة السياسية، بقدر ما كان اهتمامهم منصبًا على السلطة الفكرية، بالإضافة إلى النفوذ إلى مفاصل الدولة بفضل الإنجليز، كما يعود ذلك أيضًا إلى الامتيازات التي منحها إياهم الإنجليز من الصحف وغيرها والتي جعلت الجماهير تنحاز إليهم آنذاك.
- عمل الإنجليز على تصدير صورة مشوهة عن هذا التيار إلى المجتمع من خلال القوى الناعمة، مثل: السينما والمسرح والصحافة… كما رفضته السلطة القومية آنذاك؛ لأنه كان يتطلع إلى انتزاع السلطة.
استمرار الصراع الأيديولوجي وتأثيراته
قد ظل الصراع الإيديولوجي بين النخب قائما إلى الآن، وقد اتخذ صورا عديدة:
- من الصراع الفكري،
- إلى الصراع الجسدي والعنف في بعض المراحل،
- فضلا عن التشويه والتشكيك في النيات من كلا الطرفين،
كل ذلك يتم وسط حالة من الاستقطاب الجماهيري، وتسخير مقدرات الأمة من أجل هذا الصراع البغيض، إلى الحد الذي تسرب منه هذا الصراع إلى محاريب العلم وقاعاته.
ولو أن هذه النخب الأيديولوجية اجتمعت على مائدة الحوار واستحضرت وحدة المقاصد، وهي خير المجتمع والنهوض به، لأمكنهم الاتفاق على الوسائل والآليات، لكن الصراع قد ولد تعصباً أعمى، كما أن هناك أطراف أخرى تستفيد من تأجيج هذا الصراع، فضلا عن ضعف المستوى الثقافي في كثير من الأحيان.
محاولات التجديد والدعوة للحوار
ومع ذلك قامت صحوة تدعو للتجديد القائم على الحوار والرافض للإقصاء، وذلك في الثمانينيات والتسعينيات، إلا أن هذه الحركة هي الأخرى لم تمتلك الوعي الكافي بحركة التاريخ، وأن التغيير إنما يبدأ مما بالنفوس، والنفوس إنما تحوي أفكار ومعتقدات، وسبيل تغييرها لا يكون إلا من خلال التربية.
ومنذ ذلك الحين والصراع الإيديولوجي قائم رغم تفاوت شدته، وثمن هذا الصراع هو استمرار تخلف الأمة عن ركب الحضارة، وأهم خسائر هذا الصراع:
- استمرار الهيمنة الغربية على أمتنا ونهب ثرواتها، فإن الغرب هو المستفيد من توازن القوى الذي يضمن استمرار الصراع بين النخب الأيديولوجية.
- إهدار طاقات هذه النخب في صراع لا طائل منه والكل فيه خاسر، وعدم توجيه هذه الطاقات وجهتها الصحيحة.
اقرأ أيضا:
إكسير حيوية الشهود الحضاري للأمة
الصحوة الصاعدة والصحوة الراشدة..
الغفلة عن واقع العصر
ولع المغلوب و قابليات الاستبداد
بإمكانك أيضاً التسجيل والاستفادة من البرامج والمواد التالية :
….