بقلم: أ. محمد سلامة الغنيمي
مقال يتناول دور التجديد والتربية في حيوية الشهود الحضاري للأمة، ويبرز أهمية التكيف مع المتغيرات في إطار أصول الوحي، ودور التربية في بناء حضارة قوية وراسخة.
التاريخ الحضاري : صعود وهبوط وفق سنن كونية
أقام الله تعالى الدنيا على سنن كونية لا تحابي نبيًا ولا وليًا، ولا تتأثر باختلاف الزمان ولا المكان. وكما أجرى الله سبحانه وتعالى قانون الحياة على الأحياء، أجراه أيضًا على الحضارات: صعودًا وهبوطًا. فإن لكل شيء إذا ما تم نقصان؛ حيث يبدأ النمو من لا شيء حتى يصل إلى قمته، ثم يبدأ في الانزواء والهبوط إلى حيث بدأ؛ أي أن النمو يأخذ خطًا منحنيًا.
- ويظل النمو صاعدًا ما دام هذا المجتمع تدب فيه الحيوية والفعالية في مواجهة التحديات.
- ويكتسب المجتمع حيويته من القدرة على التجديد، والذي يرادف: البعث والإحياء في نصوص الوحي.
ومن هنا فإن التجديد يعني: التكيف مع المتغيرات التي تفرضها طبيعة المكان وتعاقب الزمان في إطار أصول الوحي المعصوم. وهذه المتغيرات تشكل تحديات قد تبطئ من نمو الحضارات وقد توقفه بحسب قوة التحديات، كما يحدث مع الأحياء بحسب قوة الأمراض.
دور التجديد في حيوية الأمة
وقد حفظ الله تعالى لهذه الأمة حيويتها الحضارية، رغم أنها قد تمرض لكنها أبدًا لا تموت؛ حيث امتن عليها وقدر أن يبعث لها على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها، (كما ورد في سنن أبو داوود وصححه الألباني). وعلى هذا الأساس تتحدد خصائص المجدد في:
- القدرة على تكييف وتطويع المتغيرات مع الأصول والثوابت.
- تنقية الموروثات القديمة التي لحقها التغيير والابتداع إلى حالتها التي كانت عليها.
والدين هنا لا يقتصر على العبادات، بل يشمل معه المعاملات والعقائد والأخلاق؛ فيحيي ما اندرس منها، ويأد ما ابتدع عليها، ويطوع ما استجد عليها، ويجدد في فروعه وفق مقومات أصوله بما يناسب ظروف العصر ولا يخرج عن ثوابت الوحي. ومن ثم فإن المجددون هم الأطباء الذين يمتلكون القدرة على تشخيص أدواء الأمم ووصف الدواء المناسب، الذي به تستعيد الأمم حيويتها الحضارية.
التجديد كالثوب للإنسان
إن مثل التجديد لهذه الأمة كمثل الثوب للإنسان:
- لا يصلح له ثوب الشتاء في الصيف ولا ثوب الصيف في الشتاء.
- لا يصلحان إذا بليا وخلقا وكثرت رقوعهما.
- لا يصلحان إذا تغير صاحبهما في العمر والحجم.
فأصل الشريعة وثوابتها هي الإنسان، ووسائل تحقيق الشريعة وإنفاذ ثوابتها هي الثياب.
الفرق بين التجديد والتقليد
وفي هذا الصدد لا بد أن نميز بين التجديد وبين التقليد للآخر؛ إذ لكل إنسان (أمة) خصوصية وصفات تميزه عن غيره، فلا تناسب ثياب النحيل السمين والعكس، لذلك يجب أن:
- نراعي خصوصية الأمة عند دراسة أحوال الأمم الأخرى.
- وندرك أن الاطلاع على أحوال الأمم والاستفادة منها، من مقومات التجديد ومن فروض الكفايات، “أفلم يسيروا في الأرض…”.
التجديد إكسير حياة الحضارات
ومن هذا المنطلق يصبح التجديد إكسير حياة الحضارات، وعملية التجديد تبدأ مما تحويه النفس الفردية للأشخاص والنفس الجماعية للأمة. والنفس إنما تحوي معتقدات وأفكار؛ وهما بدورهما يصنعان الإرادة، وهي بدورها تصنع السلوك، وهو بتكراره يصنع العادة، والعادة تصبغ الأمة بالشكل الحضاري المناسب.
وذلك مصداقًا لقوله تعالى: “ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ “[الرعد:11]،
وقوله تعالى: “ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ” [الأنفال:53] .
ومن هنا فإن التغيير الإيجابي الذي يحفظ للأمة استمرار تقدمها الحضاري، أو التغيير السلبي الذي يحرف الأمة إلى الهبوط الحضاري، إنما يبدأ مما في النفوس من أفكار ومعتقدات. وهذا التغيير هو من عمل النظام التربوي في الأمة بمفهومه الشامل الذي يتضمن جميع الوسائط التربوية.
أهمية التربية في تجديد الحضارات
تشبه أفكارنا وتوجهاتنا ومشاعرنا أوراق الشجر، حيث تسري عليها سنة الولادة ثم الموت فالبعث.
تموت فينا أفكار ومشاعر بعد أن تتم دورتها؛ لتبعث فينا أخرى من جديد في دورة جديدة لا تشبه سابقتها ولن تشبه التي تليها.
والحال هنا هو المحافظة على سلامتها بضمان سريانها داخل إطار الوحي الشريف، وفي ظل العقل الواعي السليم بعيدًا عن المغالطات والتحيزات؛ لأن سلامة الأفكار والمعتقدات من سلامة صاحبها.
وعلى هذا الأساس يمكننا القول إن التربية هي المسؤولة عن مستوى تحضر أو تخلف أي أمة في أي ميدان من ميادينها، أو أي جانب من جوانب الحياة فيها.
وقد أثبتت التجربة الإسلامية ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى معظم سنوات الدعوة يربي المسلمين الأوائل، وقد كان القرآن المكي كله يدور حول هذا الهدف، من بناء العقيدة والأخلاق، بقصص الأنبياء والرسل أو بغيرها.
دروس من التجارب الدولية الحديثة
وقد رأينا في التجارب الدولية الحديثة، كيف أن الدول التي أحرزت نموًا حضاريًا قد كانت تعود إلى نظامها التربوي كلما واجهها تحد:
- كما فعلت بريطانيا أمام الألمان.
- وكما فعلت أمريكا أمام التفوق السوفيتي عليها.
- وكذلك فعلت اليابان وكوريا.
التربية: الداء والدواء
وبإمكاننا أن نقول إن التربية هي معيار الظهور أو الذبول الحضاري لأي أمة، والوسائط التربوية هي المكان الأنسب الذي بإمكانه انجاح تجارب النهوض والتنمية،
بحيث لا نجد غضاضة في القول بأن التربية هي التنمية بكل أبعادها، وأن أنظمتنا التربوية هي الداء وهي الدواء، وأن التربية من أجل النهضة هي التي تصرف جل جهودها في بناء نموذج قوي في أصوله راسخ في ثوابته، وما تبقى من جهد تصرفه في الترميم والتحصين.
اقرأ أيضا:
الصحوة الصاعدة والصحوة الراشدة..
الغفلة عن واقع العصر
تاريخ الصراع الأيديولوجي في المجتمع العربي الحديث
ولع المغلوب و قابليات الاستبداد
الوهن وضعف الأمة: تحليل معمّق وتوصيات عمليّة
بإمكانك أيضاً التسجيل والاستفادة من البرامج والمواد التالية :
من الصحوة إلى اليقظة
الفكر السياسي الإسلامي
السنن الكونية
قوانين النهضة
….