التربية بالعقل قبل العاطفة
أ. شيماء الحيالي
في خضم التحديات والتغييرات المتسارعة التي يواجهها الانسان المعاصر بات بل أصبح من الضروري أن نعيد النظر في الأساليب التربوية التي تغرس بها القيم والمبادئ في نفوس الأجيال الجديدة، فالعاطفة ليست مجرد إحساس، بل قوة تربطنا بالآخرين، وتُشعرنا بأننا جزء من جماعة نتحمل تجاهها المسؤولية والانتماء، إلا أن وجودها غير كافٍ في بناء وتشكيل العقلية البشرية ذات الطابع النقدي المستقل، من هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى العقل في مسيرة التربية، لا ليُقصي العاطفة، بل ليعمل جنبًا إلى جنب معها، فهما جناحا التكوين الإنساني، لا يكتمل التحليق إلا بهما معًا.
العاطفة في التربية: قد تتحول الى نقمة لا نعمة
لا شك أن العاطفة بما فيها من (الحب والحنان) مهمة في تربية الأبناء، وهي قادرة على ان تخلق البيئة التي يشعر فيها الطفل بالأمان والتي تمنحه أيضا الثقة بالنفس حتى تتعدى هذه النظرة لمن حوله، إلا أن الافراط فيها قد تحولها الى نقمة حين تصبح مفرطة أو حين تستخدم كبديل عن الحوار او النقاش المنطقي، كأن يُقال للطفل لموقف ما (لا تفعل هذا لأني أحبك وأعرف مصلحتك)، عبارات سهلة مغلقة لا تتحمل المط أو المد، ولا يمكن أن يبنى عليها نقاش بل تعلوها صيغة الأمر الموجه بالطاعة العمياء للطفل.
العقل في التربية: بناء آلات للتفكير منعاً لتكديس الأوامر
بناء شخصية الطفل بالعقل لا يعني بالضرورة أننا نحولهم الى آلات جامدة أو نجعلهم روبوتات نتحكم فيها؛ فلو أردنا أن ننتج عقول قادرة على التفكير والتحليل السليم لابد أن نهيئ لهم أدوات للبحث والتساؤل والربط والتحليل والاستنتاج، نعلمهم كيف يمكنهم أن يستثمروا العقل بالتفكير، فلا نسألهم لماذا تفكروا؟ او اننا نحاول إنهاء جلسة تفكيرهم بالأمر والسخرية، فالمعلوم أن العقل لا يفكر في البيئة التي تعلوها الأوامر، وانما يتكيف في بيئة التساؤلات، فحين نربي أبناءنا كيف يتعلموا أن يجعلوا “لماذا” في كل مسألة أو حدث؛ فإننا هنا نفتح لهم آفاق للوعي والإدراك، بل نحن نساعدهم أيضاً على بناء حصن منيع ضد أي تلاعب أو تضليل للحقائق في زمن الفرضيات والفوضى والأوهام.
وأنا أكتب هذه الأسطر جال في خاطري سؤال مهم
هل أن التربية بالعقل هي مسؤولية الوالدين فقط أم أن هناك من يشترك معهم؟
وانا أفكر في الإجابة تصورت لي التربية بالعقل كمنزل كبير له عدة أبواب لكل باب له من يفتحه، فهناك باب الوالدين حيث يُفتح بالحوار المنزلي، وهناك باب المعلم والمربي حيث يُفتح في تحفيز التفكير النقدي في الصف، وهناك باب المجتمع حيث يُفتح في إعطاء المساحة الكافية للفرد في أن يُخطئ ويتعلم، يسأل ويكتشف، يُفكر وينتقد، إذن بالتالي نحن أمام
منظومة تربوية عقلية متكاملة يشترك فيها المجتمع بأكمله وإن اختلفت عناوينهم.
التوازن هو الحل في بناء شخصية متزنة العقل والعاطفة
عندما يسبق أحد الطرفين الآخر، وعندما تسقط احدى كفتي الميزان؛ هنا ينشأ الخلل في عدم التوازن، فهنا القضية ليست قضية أن نختار أحدهما ( العقل –العاطفة)، بل أن ندمجهما ونجعلها قريبين من أولادنا.
إن غياب التوازن بينهما سبب في نشأت الطفل مسلوب لاحدهما، فنشأت الطفل بالعاطفة دون العقل ينتج عنها شخصية منقادة، ونشأت الطفل بالعقل دون العاطفة ينتج عنها شخصية قاسية أو ما يعاكسها، فدمج القوتين في تشكيل الشخصية ستولد لنا الحب والحوار والاستماع والتفكير والنقد والتوجيه، بالتالي تبدأ ملامح الشخصية المتزنة ظاهرة التي يمكن من خلالها أن نعد ونبني أجيالاً لا تخاف من الاختلاف والمواجهة، لا تُقاد ولا تتبع القطيع، اليوم نحن بحاجة الى عقل مفكر وقلب متزن ، فالتربية بالعقل لا تعني أننا نلغي العاطفة أو أن نشعر حتى أنها ضد المشاعر مطلقا؛ إنما العقل وجد لحماية هذه المشاعر بل ويعمل على ترسيخها في جيل قادر على أن يُحب بقوة ويُفكر بحرية.