بقلم: أ. عامر خطاب
نشر الأخ الفاضل الدكتور حذيفة عكاش قبل أيام حلقة بعنوان (عيوب نظام الخلافة في التاريخ الإسلامي) أشار فيها إلى ثلاثة عيوب في نظام الخلافة في التاريخ الإسلامي على أن يستكمل الحديث عن ثلاثة أخرى في حلقة لاحقة، وبغض النظر عن ثلاثة النقاط التي ذكرها الأخ الفاضل فسوف نناقش عنوان الحلقة من خلال النقاط التالية:
أولاً: لا يخلو نظام حكم في التاريخ الإنساني عبر مراحله الطويلة من عيوب وأخطاء خاصة في الإجراءات التي يجتهد فيها البشر، وإن التركيز عليها لا يعود بكثير نفع وفائدة بالنسبة لنا اليوم، لأنها تجارب جاءت ضمن سياق تاريخي تؤثر فيه الحالة السياسية والاجتماعية والدينية التي تسود في كل عصر، وإن الإشارة إلى عيوب أي نظام سياسي في أي مرحلة تاريخية دون مراعاة الزمان والمكان لا يعكس الصورة الحقيقية للموقف والحدث، والأصل أن تتم الإشارة إلى الجوانب الإيجابية من تجارب البشر والتي يمكن الاستفادة منها في واقعنا المعاصر.
ثانياً: يتحدث الأخ الفاضل عن نظام الخلافة في التاريخ الإسلامي وليس عن إمكانية تطبيقه وصلاحيته لعصرنا اليوم، والأصل أن تتم المقارنة بين نظام الخلافة في مرحلة معينة وما كانت عليه الأمم الأخرى من أنظمة حكم في نفس المرحلة، وليس ما عليه نحن أو غيرنا من الأمم اليوم، والتاريخ شاهد على عظمة المسلمين في ظل الخلافة في شتى مجالات الحياة، بينما كانت أغلب الأمم تغرق في بحار التخلف والجهل.
ثالثاً: أشار في عنوان الحلقة أن العيوب في (نظام الخلافة في التاريخ الإسلامي) لكن ما ذكره لا علاقة له بالخلافة كنظام سياسي وإنما يتعلق بممارسات وتصرفات بعض الخلفاء ، وكان الأولى أن يقول (عيوب بعض الخلفاء في التاريخ الإسلامي) وليس (عيوب نظام الخلافة)، ومما لا شك فيه أن أخطاء بعض الخلفاء ليست دليلاً على فساد آلية الحكم فنظام الحكم في ذلك الوقت (الخلافة) هو الذي جعل من الأمة الإسلامية أمة ذات نفوذ واتساع، كما جعل منها أمة في مقدمة الأمم في الحضارة والعلم وما حصل الانتكاس إلا عندما انهارت الخلافة وليس بسببها.
رابعاً: الخلافة رمز وحدة المسلمين ودولتهم وجيشهم على اختلاف أعراقهم وتنوع شعوبهم، فقد اجتمعت عليها كلمة المسلمين والتفت حولها الأمة، ويبين لنا التاريخ أن أمر الخلافة وولاية العهد لم يكن من البساطة والسهولة أن يتحكم فيه الخليفة، يقول ابن الأثير: “أراد عبد الملك بن مروان أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد ويبايع لابنه الوليد بن عبد الملك، فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذؤيب وقال: لا تفعل، فإنك تبعث على نفسك صوت عار: (الكامل في التاريخ: ج3،ص 528).
وقد أدرك الظاهر بيبرس وهو سلطان مصر في عصر المماليك أهمية وجود الخلفية لكسب الشرعية في العالم الإسلامي فنقل مقر الخلافة من بغداد إلى القاهرة وبايع الخليفة المستنصر بالله الثاني بن الظاهر بأمر الله العباسي في القاهرة سنة 659ه، ولم يتمكن السلاطين العثمانيون من نيل لقب الخلافة إلا بعد سلسلة من المعارك بين السلطان سليم الأول والمماليك، والتي انتهت بسيطرة السلطان سليم على كل من الشام ومصر وتنازل الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث محمد بن عبد العزيز عن الخلافة للسلطان سليم الأول سنة 1517م حيث يعد السلطان سليم الأول أول الخلفاء العثمانيين.
خامساً: الخلافة لا تعني للمسلمين اليوم أنها نظام حكم بقدر ما تعني أنها وحدة الأمة وانتهاء مشاريع التقسيم التي أدت إلى حصر الناس داخل مربعات جغرافية صغيرة تتحكم فيها أنظمة وظيفية، فصار أبناء كل دولة يعتبرون ما يحصل في دولة أخرى شأن داخلي لا يحق لهم التدخل فيه، وإن محاولات تشويه الخلافة من خلال مشاريع إرهابية عابرة للقارات كخلافة داعش القائمة على منهاج الخوارج لن تؤدي إلى تشويه حقيقة الخلافة في عقول المسلمين وقلوبهم.
سادساً: لا شك أن الشورى هي الطريق الصحيح للوصول إلى السلطة ولكن تكمن المشكلة ويحصل الجدل في آلية هذه الشورى هل هي الديمقراطية الغربية التي تلغي شريعة الله عز وجل إلغاء مطلقاً، أم هي شورى تراعي خصوصية الأمة الإسلامية فيستشار بها أصحاب الرأي والعلم والعقل والحل والعقد.
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يليه في الصلاة أولوا النهى وحذر أن يليه السوقة فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثلاثاً، وإياكم وهيشات الأسواق” رواه مسلم. فإذا كان هذا في إمامة الصلاة فكيف بإمامة المسلمين في كامل شؤون دينهم ودنياهم.
قال الإمام أحمد بن حنبل: “لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر ليصلي بالناس وقد كان في القوم من هو أقرأ منه وإنما أراد الخلافة” (مناقب الإمام أحمد ص 166)
سابعاً: بشر النبي صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة في آخر الزمان ونزولها في بيت المقدس ومع القوة التي كان يتمتع بها بعض الخلفاء والسلاطين على مر التاريخ الإسلامي، لكن أياً منهم لم يفكر في أن يجعل القدس دار الخلافة مع ما لها من المنزلة والكرامة، وهذا دليل على أنها لم يأت أوانها بعد وسوف تنزل الخلافة بيت المقدس عندما يشاء الله ذلك.
روى أبو داوود في سننه بإسناد صحيح عن عبد الله بن حوالة الأزدي أن النبي صلى عليه وسلم قال: “يا ابن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المقدس فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك”
ثامناً: إن نجاح التجربة الديمقراطية في الغرب جعلت الكثيرين ينبهرون بهذا النظام على أنه من أفضل وسائل التداول السلمي للسلطة، لكنهم في نفس الوقت يتجاهلون ما تقوم به الآلة الإعلامية من توجيه الرأي العام والتأثير على المواطن، كما يتجاهلون أن الديمقراطية بالنسبة للغرب لا تتجزأ فهي نظام حكم ونظام حياة، كما أنها لا تؤثر على الحاكمين الحقيقيين بالدول من ضباط الأمن القومي والمخابرات والجيش، وهذا كله يدعونا بدل الانبهار بتجارب الغرب أن نفكر ملياً بإنتاج آليات تراعي ما وصل إليه العالم اليوم من تطور في أنظمة الحكم، ولا تتجاوز خصوصية الشعوب العربية المسلمة.
تاسعاً: إن أغلب الدول الغربية الديمقراطية اليوم والتي يراها البعض مثالاً ونموذجاً للحكم هي في الحقيقة دول تخضع لنظام ملكي فبريطانيا وإسبانيا والنروج والسويد والدنيمارك وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ والفاتيكان كلها دول ملكية منذ مئات السنين وما زالت تخضع لسلطة الملك، لكنها طورت هذا النظام وجعلتها (ممالك دستورية) بحيث ينتخب الناس رئيس مجلس الوزاء والسلطات التنفيذية والتشريعية دون أن يكون لأحد دور في النظام الملكي واختيار ولي العهد مع ما له من صلاحيات واسعة في إدارة الدولة.
وبدل أن نؤصل لإلغاء الخلافة ونعدد عيوبها لماذا لا نتكلم عن (خلافة دستورية) بحيث تكون الخلافة رمزاً لوحدة المسلمين بينما ينتخب الناس من يدير شؤونهم ويحكم المقاطعات والولايات، وقد يكون اتحاداً للدول الإسلامية على غرار الاتحاد الأوروبي مثلاً ويشغل الرئيس في هذا الاتحاد منصب (الخليفة) وهنا فإن مقام الخلافة تحدده المرجعيات الكبرى من المؤسسات العلمية والمجالس الفقهية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وإن هذا الأمر لا يمكن تحديد ملامحه في مقالة وإنما يحتاج إلى مؤتمرات ولقاءات ودراسات وأبحاث.
….
- المصدر: موقع رابطة العلماء السوريين
- 2020/08/23