بقلم: د. عبدالكريم بكار
اكتشف في هذا المقال صفات القارئ الجيد وكيف يمكن للقراءة أن تصقل عقلك وتثري رحلتك الفكرية، نصائح عملية لتعزيز تجربتك القرائية وجعلها أكثر فعالية ومتعة.
وسائل التواصل تخطف شبابنا من متعة القراءة
أشعر اليوم بالأسى لأن وسائل التواصل خطفت كثيراً من شبابنا من الكتاب للتحديق في (الجوال) لساعات طويلة، دون الحصول على أي شيء معرفي ذي قيمة، وإني أرجو أن يتداركنا الله تعالى بصحوةٍ قريبة، نعود فيها إلى متعة القراءة والثقافة الراقية والعميقة التي نحصل عليها بصحبتنا للكتب.
نحن حين نقرأ كتباً جيدة نكون قد جالسنا أفضل العقول، لنحصل على المعارف التي تغذي عقولنا وأرواحنا، وتدفعنا إلى الأمام.
سحر القراءة: مكتب وكتاب وفنجان قهوة
في أحيانٍ كثيرة أقول في نفسي: مكتب وكتاب، وفنجان قهوة ثم ماذا بعد؟ فالجلوس على المكتب بصحبة كتاب وفنجان قهوة، يجعلني أعيش في عالم فريد من البهجة والامتلاء والتجدد، إنه عالم اكتشاف المجهول وصقل العقل وتجول الروح في بساتين المعاني المليئة بالزهور والثمار والروائح العطرية.
قد كتبت عن القراءة، وكتب غيري الكثير، ومن ذلك الفيض الهائل من الأفكار سأنتقي ما أراه الأنفع والأهم:
أولا: التركيز على الجودة لا الكم
ليس المهم كم صفحة نقرأ في اليوم، وكم ساعة نقضيها في مطالعة الكتب، إنما المهم دائماً هو الحصيلة الفكرية والمنهجية التي نحصل عليها.
على الشابكة (الإنترنت) اليوم كمٌّ هائل من المعارف المتنوعة، ونحن نستطيع الوصول إليها في أي وقت، إذن لا ينبغي أن يكون الاطلاع على المعلومات هو الهدف الأول من القراءة، بل الأهداف يجب أن تكون:
- صقل العقل.
- إغناء الرؤية المنهجية.
- تحسين المحاكمة العقلية، والملَكة النقدية.
فهذا ما يحتاج إليه شبابنا اليوم؛ حيث إن التعقيد الشديد الذي نشهده اليوم حيثما اتجهنا يحتاج إلى عقلٍ جديدٍ قادرٍ على فهم طبائع الأشياء، واستخدام الكثير من المؤشرات والمعايير عند اتخاذ القرارات.
هذا يعني أن نعطي الأولوية في القراءة للكتب الفكرية القيّمة، وأن نحرص على قراءة الكتب التي تتحدّانا؛ فكون الكتاب فوق مستوى القارئ قليلاً يعني أن فيه جديداً عليه؛ حيث إننا حين نقرأ فإننا نفهم بيسرٍ ما نعرف، فإذا عانينا في القراءة، فهذا يعني أننا نطَّلِع على ما لا عهدَ لنا به.
ثانياً: اختيار الكتاب المناسب
بعض الشباب يسارعون إلى اقتناء كتابٍ من الكتب لأن مؤلفه فلان، وبعضهم يفعل ذلك بسبب إغراء العنوان، أو حداثة الموضوع الذي يعالجه المؤلف… والحقيقة أن الإسراع في اقتناء أي كتابٍ ليس بالشيء المحمود، حيث إن الكتاب مثل (الثوب) فكما أن لكل شخص مقاسه الخاص، فلا يناسبه لبس أي ثوب، كذلك القارئ لا ينتفع الانتفاع المرتجى إلا من قراءة كتب بعينها.
- بعض الكتب الممتازة يكتبها كتّاب مغمورون،
- وهناك كتّاب جيدون يكتبون في بعض الأحيان كتباً غير جيدة،
ولهذا فعلى الواحد منا أن يمنح نفسه عشر دقائق قبل قرار الاقتناء ليُلقي نظرة على مقدمة الكتاب وفهرس موضوعاته، وليقرأ بعض صفحاته، وبعد ذلك يتخذ القرار المناسب.
أنا شخصياً لا ألتزم بهذه النصيحة في بعض الأحيان، فأجدني وقد اشتريت كتاباً لا يلبي توقعاتي، وبالتالي فإني لا أستفيد منه!
ثالثاً: الأسلوب الجيد في القراءة
في الكثير من الأمور يكون الأسلوب أهم من المضمون، وهذا ما نجده في (القراءة) حيث إن النتائج الباهرة التي ننتظرها منها ليست في عظمة الكتاب الذي نقرؤه، وإنما في أسلوب قراءتنا له.
في البداية علينا أن نلاحظ:
- أن القراءة ليست عملاً ممتعاً في كل الأوقات.
- وهي تخضع كذلك للمزاج النفسي للإنسان.
- ومن ثم فلابد من تهيئة الجو المناسب لها.
ولعل تهيئة مكان في المنزل لهذا الغرض وعلى قدر الوسع والطاقة يكون هو الشيء الأساسي، وينبغي أن يكون ذلك المكان:
- منظّماً.
- هادئاً.
- جيد الإضاءة والتكييف.
- ونحتاج كذلك إلى مكتب نضع عليه الكتب وجهاز الحاسب والأوراق والأقلام.
فنوعية الجلسة مؤثرة جداً في المحصول الفكري والمعرفي لما نقرؤه.
الحكمة العامة تقول:
قراءة كتاب جيدٍ بطريقة جيدة، خيرٌ من قراءة ثلاثة كتب جيدة، لكن بأسلوب غير جيد،
وإن الأسلوب الجيد يكمن في حرث الكتاب حرثاً:
- فهذه كلمة تحتها خط.
- وهذه كلمة مظللة باللون الأصفر أو الأخضر.
- وهذه جملة وضعها القارئ بين قوسين.
إنها قراءة متعمقة ومتفحصة جداً، وهذا كله لا يغني عن وجود دفتر إلى جانب الكتاب ننقل إليه ما نجده مهماً من الأفكار والمقولات التي نطّلع عليها، فنحن في الغالب بسبب غزارة ما تنتجه المطابع لن نعود إلى الكتاب مرة ثانية،
ولهذا فنقل خلاصة أفكاره إلى أوراقنا ودفاترنا، يعدّ في غاية الأهمية، فقد دلت التجربة على أن معظم القراء ينسون جُلّ ما قرؤوه، ولا يكاد يبقى منه إلا اسم الكتاب مع القليل جداً من المضمون.
رابعاً: التفكير فيما نقرأ
لدى كل واحد منا بنية فكرية ومنهجية محددة، وهذه البنية تظل قابلة للتجدد،
وحتى تشكّل (القراءة) مصدراً لتجديدها، فإن علينا القيام بأمر مهم، هو التفكير فيما نقرأ،
ولهذا فإن أحد الخبراء ينصح أن نخصص بعد كل ساعةِ قراءة، عشرين دقيقةً في التأمل فيما قرأناه، وهذا التفكير يأخذ منحيين:
الأول: تدريب العقل :
- التفكير في طرح الكاتب.
- مدى صواب ما يسوق من أفكار.
- وهل هناك طريقة أفضل لصياغتها.
وهذا اللون من التفكير يدرّب العقل على تشكيل رؤيته الخاصة تجاه الأفكار المتداولة.
الثاني: ما الذي يعنيه هذا الكلام بالنسبة لي:
- هل هو موافق تماماً لرؤيتي للقضية موضع المعالجة؟
- هل يضع بعض القيود على ما لدي، ويحد من إطلاقه؟
- هل هو مغاير تماماً لما أعتقد؟
- هل في النص المقروء شواهد وبراهين أستفيد منها في طرحي الشخصي؟
- أو فيه شواهد تدل على وجود استثناءات وتفضيلات أنا غافل عنها؟
إنَّ التفكير فيما نقرأ يجعلنا نملك ما نقرؤه، ويجعلنا في حالة أفضل مما كنا عليه قبل القراءة.
خامساً: الاستمرار والمثابرة
النجاح في كثير من الأمور موكول إلى الاستمرار والمثابرة، وقد حدثني العديد من الشباب عن أن لديهم مشكلة في الاستمرار في القراءة، حيث يجد الواحد منهم نفسه معرضاً عنها الشهرَ والشهرين والثلاثة… وهذه مشكلة حقيقة؛ إذ إن أعمارنا قصيرة، والذي ينبغي أن نطّلع عليه كثير كثير،
فلو أن الواحد منا استمر في القراءة خمسين سنة، وقرأ على نحو مستمر كل أسبوع كتاباً لكان ما قرأه نحواً من ألفين وستمئة كتاب، وهذا جزء صغير من الكتب المؤلفة في أي علم من العلوم الأساسية.
شيء عظيم جداً أعده علامة فارقة في حياتي، إذ وفقني الله تعالى لإلزام نفسي – في مرحلة من حياتي – بالقراءة والكتابة ساعات محددة كل يوم، ولا أعذر نفسي في عدم القيام بذلك إلا إذا كنت مريضاً أو مسافراً، وفي آخر الأسبوع أقضي ما يمكن أن يكون فاتني من ساعات.
أنا آمل من كل شاب من شبابنا ألا يمر عليه يوم دون أن يقرأ نصف ساعة على الأقل في كتاب جيد، فهذا قد يجعله يقرأ في السنة خمسين كتاباً أو أكثر، وهذا غذاء روحي وفكري ليس بالقليل.
سادساً: مجالات القراءة المناسبة
كثير من الشباب يتساءل عن العلوم التي يطالعون فيها، وهذا التساؤل مشروع، لكن الجواب عليه صعب، ويمكن أن نقول على نحو عام: إن من المناسب أن يقسم الشاب ساعات مطالعاته إلى ثلاثة أقسام:
- 20% للثقافة الشرعية.
- 20% للثقافة العامة.
- 60% للتخصص الذي ارتضاه لنفسه ويعمل في مجاله، وهذه الستون يترك ثلاثة أرباعها للتعمق في التخصص، ويقضي الربع الباقي في القراءة في تخصصات لصيقة بالتخصص، مثال:
- المتخصص في الفيزياء يقرأ في الرياضيات والكيمياء والفلك،
- والمتخصص في التاريخ يقرأ في علم النفس والاجتماع والجغرافيا وهكذا….
أما الشاب الذي يدرس في الجامعة عليه أن يكرّس معظم وقته وجهده للتفوق في دراسته وسبر أغوار تخصصه الجامعي ومتابعة الجديد فيه.
وتظل القراءة في الكتب أكثر مصادر المعرفة إفادةً وموثوقية، ولهذا فإن علينا دائماً أن نجعلها في بؤرة اهتمامنا.
أقرأ أيضا:
القراءة الجيدة
ثقافة السؤال
عشر نصائح لطلاب الجامعات والخريجين الجدد
ثقافة الاستدراك
….