د. محمد الطاهري
كاتب وباحث - المغرب
تعرف على أهمية قيم الجمال في الإسلام وكيف تساهم في تخليق فضاءاتنا العامة وتغيير المجتمعات من حالٍ إلى حال
حاجتنا إلى قيم الجمال لتخليق فضاءاتنا العامة
تحظى القيم الجمالية في الإسلام بمكانة عالية لما لها من قدرة على تغيير ما بالإنسان من حالٍ إلى حال، وقد ركز الإسلام على تجميل الروح وتزيينها في عامة ما شرعه من أحكام؛ بما هي أساس لجمال الباطن، حتى إذا جملت الروحُ سرى بالضرورةِ جمالُها إلى الظاهرِ فكساهُ جمالاً وزيّنه بمحاسن الإسلام الظاهرة في تشريعاته وأحكامه.
أهمية قيم الجمال
ويبدو حقاً كما يقول الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن أنه :
“إذا تعذر على أمة ما الإسهام في محيطها الحضاري ببعدها الجلالي الذي هو القوة والبأس، فإنه يبقى لها دائماً متّسع في أن تسهم في هذا المحيط ببعدها الجمالي، الذي هو الرقة واللطف”
ومن هنا يتعين علينا أن نفكر ملياً في الطرق الجمالية التي ينبغي أن تسهم بها أمتنا الإسلامية في المستقبل، لأننا إن اهتدينا إلى هذه الطرق فسوف يكون لنا من العطاء الجمالي ما نجعل به الناس يحتاجون إلينا قدر احتياجنا إلى عطائهم الجلالي، ولذلك أعتقد أن من أبرز عوامل تخليق الإنسان وفضائه العام توجيه البوصلة نحو القيم الجمالية التي عبّر عنها طه باسم “الجماليات العليا” وهي :
- الجماليات التي تتخطى حدود العقل إلى ما فوقه
- والتي تمد العقل نفسه بأنواره وأطواره
ولا يتعلق هذا التذوق أبداً بما تحت العقل، كما هو شأن “الجماليات السفلى” التي يستغرق أصحابها في الحس، ظانين، عن ضلال فاحش، أنهم يغوصون على كنوز المعاني وذخائر القيم.
أثر جمال الروح على الحضارة الإسلامية
إنني أعتقد أن وعي المسلمين بهذا الأمر قديماً هو ما جعلهم ينتجون حضارة لا زالت آثارها شاهدة على عظمتها إلى اليوم، فقد كانت غالب أعمالهم تركز على جمال الروح أكثر من أي جمال آخر، ولعل هذا ما أكده فريد الأنصاري رحمه الله في كتابه الماتع (جمالية الدين) حين ذكر أن:
“الجمالية في الإسلام إنما اهتمت أساساً بإنتاج (جمال الروح)، وتزكيتها صقلاً وترقية، إلى أعلى مستوى ممكن في التجربة الإنسانية! ولم تستغرق كل جهدها في تلميع (جمال الصورة) بأصباغ (الحمأ المسنون)! كما هو الشأن في الجمالية الغربية! وإنما جعلت الصورة تابعة للروح لا العكس! تجمل بجمالها وتقبح بقبحها!”
وأظن أنه يمكن رصد هذا الذي قاله الأنصاري في مواطن كثيرة من حضارتنا الإسلامية باستقراء لتاريخها، وذلك ما قام به مالك بني نبي رحمه الله حين صاغ نتيجة تفكيره في هذا الأمر معادلته الرياضية:
ولا شك عند من يطالع لمالك بن نبي أن تذوق الجمال عنده يشكل عاملاً أساساً في سلامة التوجيه الحضاري من عدمه، لأن الذّوق الجمالي بالنسبة له هو المبدأ الثاني الذي يحدد اتجاه الحضارة، فهو الذي:
يطبع الصلات الاجتماعية بطابع خاص، من حيث إنه يضفي على الأشياء الصورة التي تتفق مع الحاسّة الجمالية والذوق العام، من حيث الألوان والأشكال،
بمعنى أن دور القيم الجمالية في معادلة الحضارة عنده هام بقدر أهمية دور القيم الأخلاقية، فإذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته،
وهنا وجهٌ آخر للفرق بين العلم والثقافة:
- فالأول تنتهي عمليته عند إنشاء الأشياء وفهمها
- بينما الثانية تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها
ويبدو أن الثقافة والعلم من أهم عناصر رقي الأفراد والمجتمعات، فتميّز الأمم بعضها عن بعض إنما يكون من خلال مدى تمتّعها بعناصر أساسية من أهمها الثقافة والعلم.
ضعف القيم الجمالية وعلاقته بضعف الأمة
ولذلك فأي ضعف في القيم الجمالية يعتبر من عوامل ضعف الأمة الإسلامية، ولذلك لن يتسنى في نظري لفضاءاتنا العامة أن تتخلق وتبعث فيها الروح إلا بعد انعتاقها من ربقة هذا “التخلف الحضاري” الذي أصابها، والذي يشكل ضعف قيم الجمال فيه أحد أهم عوامله،
وبعبارة أخرى: إن دورنا تجاه القيم الجمالية يجب أن لا يقتصر على مجال دون آخر، ولكن يتعيّن أن نجدها حاضرة في سائر وجوه نشاطنا الإنساني، بل يتعين أن نحرص على غرس قيم الجمال حتى في أبسط أمورنا وأصغرها، وإن ضعف الاهتمام بهذه القيم سيشكل تهديداً حقيقياً لنا، ولذلك ينبغي على الدوام أن نستشعر القبح حيث كان، وهو كائن في كثير مما يحيط بنا، ومن ذلك شوارعنا مثالاً، فعندما نسمع صوتاً ناشزاً كضوضاء أبواق السيارات، التي ترعد صاخبة أحياناً ينبغي أن نحس بالخطر الناجم عن ضعف القيم الجمالية التي تسري فينا.
تذوق القيم الجمالية دليل على السير في ركب الحضارة
إن تذوقنا للقيم الجمالية واستشعار أصغر عناصرها دليل على سيرنا في ركب الحضارة، ولذلك ينبغي أن ينظر إلى القيمة الجمالية من هذه الزاوية الحضرية، بما هي مسهمة في خلق نموذج متميز:
- يهب الحياة نسقاً معيناً
- ويمنح حركة العمل دفعاً وإبداعاً
- ويحدث التغييرات الإيجابية العديدة في السلوك والحياة
وهذه الآثار المتولدة عن قيم الجمال هي في حقيقتها منحة تربوية تغييرية قادرة على تخليق فضاءاتنا العامة.
إدخال قيم الجمال تربوياً
إنني أعتقد أن إدخال قيم الجمال تربوياً في تصميمنا الثقافي وتربيتنا المدرسية يشكل اليوم مطلباً حيوياً، ولا شك أن هذه التربية الجمالية إذا أعطيت للطفل كان ذلك سبباً في تنشئته صالحاً، ومن ثمة صناعة مجتمع صالح، وهذه النظرة لو تأملنا وجدناها لا تخرج عن دعوة القرآن الكريم، وسنة نبينا الكريم.
أقرأ أيضا :
كيف الله ينصرنا من خلال العودة إلى الدين؟
كيف نرسّخ ثقافة العمل الخيري؟
دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية
محاور للتربية الاجتماعيّة
….