فلسفة السرطان.. في الأجساد والبلاد والعباد
د. ذكاء عبد الرحمن – سوريا
جذور:
مِن أمثال العرب: الأَخذُ سرَطانٌ، والقضاءُ ليَّانٌ. ويعني أنك تُحبُّ الأخذَ وتَكرهُ العطاء. وفي المثل أيضًا: لا تكن حُلوًا فتُستَرَطَ، ولا مُرًّا فتُعقى. أي تُلفَظ لمرارتك.
وفي لسان العرب: سَرِطَ (بكسر الراء) بمعنى ابتَلع، والسّرَطانُ يلتهم كلّ شيء. وهو داءٌ يأخذ الناسَ والدّوابّ. والعرب تقول سِراط للطريق الواضح، وهي بالصاد في لغة قريش الأوّلين التي جاء بها الكتاب (صراط)، وإنما قيل للطريق الواضح سِراط لأنه كأنه يَستَرِطُ المارّة لكثرة سلوكهم فيه.. “اهدنا الصراط المستقيم”.
صفات عامة:
إنّ كلمة (سرطان) مرتبطة في قرارتنا بمجموعةٍ من الصفات لا تنفكّ عنها؛ نَذكرها فيَحضر في أذهاننا الخَبَث، والمعاناة، والتكاثر العشوائيّ، والدمار، والضعف، والتفشّي، وعسر العلاج. وهي روابط وثيقة تجمع كلّ أشكال السرطان في هذا العالم؛ سرطان الأجساد وسرطان البلاد وسرطان العباد. قد يكون بعضها سبباً لبعضها الآخر، لا عجب في ذلك فبينها قرابةُ النّسب أو الصهر؛ الاحتلال، والتدخين، والإباحية، والشذوذ، والتّرَف، وعدم الصبر، وكل أدواء عصرنا الجديد.
كتاب (سيرة إمبراطور الأمراض):
سألتُ نفسي: هل كانت مصادفَةً تلك التي جمعَت بين قراءتي لكتاب (إمبراطور الأمراض، السرطان.. سيرة ذاتية) بجزأيه، وبين بداية طوفان الأقصى! بين سرطان الأجساد وسرطان البلاد؟
وتذكّرتُ قول الله تعالى: “ولتجدنّهم أحرصَ النّاسِ على حياةٍ ومنَ الذينَ أشركوا يودُّ أحدُهم لو يُعمَّرُ ألفَ سنةٍ وما هوَ بمُزحزِحِهِ منَ العذابِ أن يُعمَّر” [البقرة: 96]
يودّ لو يُعمّر ألف سنة! رغبة مشتركة بين سلوك الاحتلال الإسرائيلي وحرصه على العدوان والاستيطان، وبين تشبث السرطان بالحياة على حساب الحياة.
تُرى لو تُرك السرطانُ لرغبته دون مقاومةٍ ما الذي سيحدث؟
يقول الكاتب (سيدهارتا موخيرجي): “إذا كنا، كجنسٍ، بمثابة الناتج النهائي للانتقاء حسب داروين، فهذا المرض الرهيب أيضًا يمثّل ناتجًا نهائيًّا للانتقاء الذي يقبع داخلنا”.
لا بدّ لعلاج السرطان من استئصاله جذريًّا (إن أمكن)، كما يجب اتباع ذلك بإجراءات أخرى كالعلاج الإشعاعيّ أو الكيميائيّ أو كليهما معًا. ومن ثَمّ الاهتمام بعافية البدن ورفع مناعته النفسية والعقلية. وفي كلّ الحالات يلزم مراقبة المريض بعد ذلك دوريًّا، لاكتشاف عودة المرض مبكّرًا.. فهو مرض غادرٌ مخادع، ليس له أمان، كما المحتلّ الطامع بالتوسّع أبدًا، وليس له عهد ولا ذمّة “وأَعِدّوا لهم ما استطعتم مِن قوّة..”
في مرحلةٍ مبكرةٍ من البحث عن علاج ناجع، عمَد الأطباء إلى حرمان خلايا الأورام السرطانية من المغذيات، لكنّ ذلك لم يكن مجديًا!
يقول فرانز كافكا: “لعلّ نَفاد الصبر الخطيئة الجوهرية. فبسبب نفاد الصبر خرجنا من الجنة، وبسبب نفاد الصبر لن نتمكن من العودة إليها”.. إذن، معركتنا ضد كل سرطان وكل عدوّ هي مع الصبر!
اعرف عدوك.. “إذا كنتَ تعرف نفسك وتعرف عدوك، فلا داعي للخوف من نتائج مئة معركة، وإذا عرفتَ نفسك دون عدوك، فكلّ نصرٍ تحرزه ستَلقى مقابلهُ هزيمة، وإذا كنتَ لا تعرف نفسك ولا عدوك، فحتمًا ستُهزم في كل معركة تخوضها”. -سون تزو-
ولو أعجبك كثرة الخبيث:
“فإذا كان السرطان هو نتاج الحداثة، فكذلك السبب الرئيس له: التبغ”.
إنّ التدخين من سرطانات العباد؛ يسلك سلوكها ويقتفي أثرها ويتوعّد ضحاياه بضعف العزيمة عن الإقلاع، بل بالقضاء عليها تمامًا..
كتبَ فريد بانزر (مدير العلاقات العامة في معهد أبحاث التبغ) يشرح استراتيجية التسويق لصناعة التبغ قائلًا: “إثارة الشك حول الاتهامات الصحية دون إنكارها فعليًّا، والدعوة إلى حق الجمهور في التدخين دون حثّهم فعليًّا على ممارسة هذه العادة، وتشجيع الأبحاث العلمية الموضوعية هو الطريقة الوحيدة لحسم مسألة المخاطر الصحية”.
ومِن صُوَرِ ذُلّ التدخين أنّ المرضى يستيقظون بعد إجراء عمليات استئصال الأورام السرطانية لهم، ثم يمشون كالأشباح عبر الأروِقة ويتسوّلون الدخائن من الممرضات.
لقد ظهر وباء التدخين كشكل من أشكال النمط السلوكي الذي ينتقل انتقالَ العدوى من موقع لآخر. فقد حمل الجنود هذا الوباء معهم إلى أوروبا بعد الحرب، وغدت النساء يُقنع بعضهنّ بعضًا بالتدخين، وأصبحت صناعة التبغ وفرصة التلذذ والإعلان عن الدخائن صورةً من صور الروابط الاجتماعية التي تربط الأفراد في مجموعات متماسكة. “إن القدرةَ على الانتشار كامنةٌ داخل التدخين، فإذا انطفأت شبكاتٌ كاملة من المدخنين بسرعة، فبإمكانها أن تنطلق وتومِض بالسرعة ذاتها. وإذا قُطعت الروابط بين غير المدخنين في مكان ما فعندئذ قد تتغير الشبكة بالكامل على نحو كارثيّ”.
أنتِ سُمٌّ بين الحنايا زعافٌ كيف تستعذبُ السمومَ الحنايا
يتهاداكِ في المجالس قومٌ كيف تُستحسَنُ الأفاعي هدايا
ونحن بسكوتنا عن العدوان أو التطبيع معه نسير بإرادتنا نحو جعلِ السرطان هو الحالة السوية الجديدة.. والله تعالى يقول: “قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث”
سرطان العباد ما بعد الحداثة:
ثَمّة سرطانٌ آخر يجتاح العالم ببطء يُرافق تطوّرَه المزعوم، ويجعل الحياء والفضيلة أعظم ضحاياه، هو سرطان الإباحيّة تحت شعار الحرّية. فلا معافاة مع المجاهرة بالمعصية والحضِّ عليها ونشرها بين العباد..
يُعتبر سرطان الإباحية إدمانًا سلوكيًّا قهريًّا، له عواقب خطيرة، نفسية واجتماعية ومادية. وقد مهّد هذا السرطان الحديث بدوره لآخر تلاه وَفاقَهُ شرًّا وإفسادًا.
فإذا كان السرطان جنوحًا بيولوجيًّا، فإنّ الشذوذ الجنسي جنوحٌ اجتماعي، وانتكاسةٌ مُهلكة للمنظومة البشرية من قواعدها.. وإذا كان نشيد المنظمات الصحية للأطباء: نريد الدواء في الأبدان، فإنّ نشيد البشرية للعلماء والعقلاء ينبغي أن يكون: نريد الدواء في الأخلاق والنفوس!
ورُبَّ قبيحةٍ ما حالَ بيني وبين رُكوبِها إلا الحياءُ
فكانَ هو الدواءَ لها ولكنْ إذا ذهبَ الحياءُ فلا دواءُ
في (سيرة إمبراطور الأمراض) يظهر السرطان طاغيةً مستبدًّا في حكمه، وأمره، وظلمه! إنّه نسخةٌ غيرُ منضبطةٍ من الحياة، ذلك أنّ مسار الحياة الطبيعية يختلّ إذا فَقدت إحدى آليّتيها الأساسيتين وهما:
ديمومة (الانقسام) وانضباطه، وكبح الخارج عن ذلك النظام.
تمامًا كما يتطلّبُ العيشُ بسلامٍ قلبيّ دوامَ التخلية والتحلية. ومِثل كلّ الثنائيات التي تعمل وتتعاون معًا لتُكوّن شيئًا متوازنًا يحمل في داخله مقومات بقائه الطبيعي، بلا إفراط أو تفريط (وذلك لأجل مسمّى)، كذلك الروح والمادة؛ فالمادة تسعى للتكاثر، وقد يلهيها التكاثر أو يطغيها، والروح هي المُوَرِّثُ المانع لتضخّم الإنسان بالغرور والبطر والظلم..
لكلِّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصانُ فلا يُغرَّ بِطيبِ العيشِ إنسانُ
إنّ بذرةَ الشرّ (الموجودة طبيعيًّا) لا يُسمح لها ببدء عملها إلا عند وجود من يُنمّيها، أو عدمِ وجودِ من يَحجبها ويُفنيها.
الطفرات لا تُخلق من عدم، بل يُسمح لها بالظهور والتأثير في ظل غياب الكابح، وانشغال العامل حدّ اللهو.. “فألهمها فجورها وتقواها”.
في خاتمة الكتاب يقول لنا الطبيب العظيم بصدقٍ:
(إنّ الوحشَ إنسان تورّم، مثل السرطان تمامًا، فالخلية السرطانية نسخةٌ مشوّهةٌ من طبيعتنا).. وكأنّه يقترب بعلمه من حافة الإيمان، يروح ويغدو بُعدًا وقُربًا منها.. وما أعظمَ العلمَ والإيمان إذا اجتمعا في قلبِ إنسان!
السرطان رغبة كامنة في بذرة الحياة، وسلوك مدمّر بلا حدود. واستئصاله يعني انتزاع تلك الرغبة التي لا تشبع، لتفاجئنا بأنها تركت بخُبثٍ بقايا لها في الجسم، هنا وهناك، وكأنّها تهدّدنا بعدم استسلامها بسهولة، وربما أبداً! ذلك أنّ قوّةَ الحياة فيها أقوى من الحياة نفسها.. “جميعنا يجب أن يتحرّك، أن يركض، يجب أن نستولي على المزيد من التلال. يجب أن نوسّع بقعة الأرض التي نعيش عليها، فكلّ ما بين أيدينا لنا، وما ليس بأيدينا يصبح لهم.” -أرييل شارون-
بذا قضت الأيّامُ ما بين أهلها مصائبُ قوم عند قوم فوائدُ
السرطان والخلود:
من الواضح أنّ علينا التخلّي عن فكرة الخلود في هذه الدنيا إذا كانت ستسلك سلوك السرطان!
بالمقابل، كلما استطعنا السيطرة على سلوكياتنا اليومية (في الطعام والشراب والنوم والحركة والطريقة التي نتقدم بها في السنّ) قَلّت تعقيداتُ علاج السرطان.
الحضارة المجردة من القيم الإنسانية تعيث في الأرض فسادًا كما يفعل انتشار السرطان في جسد صاحبه.. زيادة أشبه بالنقصان، بل إنّ النقصانَ خيرٌ منها!
السرطان تبذيرٌ للحياة الدنيا بلا ضابط.. ودعوة للحياة الشوهاء التي يسعى إليها التطور المزعوم في زمن ما بعد الحداثة.. إنّه يُرينا بصورة استباقية حالةَ الخروج عن السيطرة التي يمكن لهذا التطور أن يسوقنا إليها!
ربّما لم يعرف العلماء إلى الآن بدقّة ما الذي يجعل بعض الخلايا تُفلت من النظام، وتَعيث فسادًا في نشر الحياة هنا وهناك، بلا أي اعتبار للمكان أو الوظيفة أو الآثار المحتملة. لكنّنا نرى بأعيننا أنّ الفسادَ الذي ظهر في البرّ والبحر كان عاقبةً لطغيان الرفاه، وبثِّ خياراتٍ لا محدودة في سبيل تحقيق راحة ولذّةٍ لا تشبع.
لا تنقسم الخلايا السرطانية فحسب، بل تهاجر من مكان لآخر داخل الجسم، وتدمّر الأنسجة الأخرى، وتغزو الأعضاء، وتستعمر المواقع البعيدة داخل الجسم.. إنها تقاوم انضباط الحياة وتتحدى الموت!
انقطاعات الموت:
في رواية (انقطاعات الموت )، بدأ المؤلف (جوزيه ساراماغو) بعبارة:
“في اليوم التالي لم يمت أحد..” وانتهى بنفس العبارة.
كانت فكرةً مخيفة جدًّا.. ألا نخاف من الموت بعد إعلان انقطاعه.. مِن أي شيء سنخاف إذن، من الحياة؟!
لا بدّ للإنسان من الشعور بالخوف من شيء ما -أو على شيء ما- حتى يمكنه الاستمرار في الحياة.. لقد عثرنا على بديل للخوف من الموت، لكنه بديل أشدُّ قبحًا وإيلامًا، بديلٌ عصيّ عن الوصف. تتصاعد الأحداث في الرواية إلى تصورات لتفاصيل يصعب على العقل البشري تخيّلُها فضلًا عن حدوثها. ثم تعود لتهوي بالقارئ في وادٍ سحيق، حاملة معها كلّ جمال الوجود.. لتحيله فوضى قبيحةً لها ألف وجه.
لقد أضرب الموت عن العمل، واستهلك بذلك القرار كل ينابيع ماء الحياة، ليترك الأرض بعدها صحراء شديدة البرودة. وسمح لغرور ذلك المخلوق الضعيف الذي يَعُدّ أيام وجوده أن يتطاول على سبب ذلك الوجود، وأن يبعثر أوراق الموجودات الأخرى تاركًا إيّاها بلا معنى.. الحياة والموت.. الإيمان والكفر.. الحب والحقد.. الإنسان والمخلوقات الحية.. الفراشات والكلاب. وجعلنا نتصوّر كيف يعيش الإنسان ضمن منظومة قد تجرّدَت من النظام والخُلق. ليستقيمَ له التلاعبُ بكل المقدسات تحت مظلة البحث عن القداسة الفردية والمصلحة والخلود!
“كلُّ مَن عليها فانٍ ويبقى وجهُ ربّك ذو الجلال والإكرام”
خاتمة:
إنّ السرطان، أي سرطان كان، ضد الأجساد أو البلاد أو العباد، ليس مجرّد مرض عضويّ، بل هو استعارة لحالةٍ كونية من الفساد والخلل.. إنه تحدٍّ للإنسان.. لعقله ووعيه وقدراته وكرامته، وربما هو دافعٌ له نحو تحصيل المجد بالتغلّب على أدواءٍ تَحمِلُ وهمَ سرِّ الخلود.. وكأنّ علاجها أو الانتصار عليها سوف ينقل تلك القوة الخفيّة في خلاياها الخبيثة العنيدة إلى روح البشرية، لتَهبها عمرًا جديدًا نظيفًا، يَمنح بني آدم رحمةَ الحياة لا تكاثرها، وبركةَ الحياة لا طغيانها.
✍🏻 د. ذُكاء عبد الرحمن