بقلم: د. سيف الدين عبد الفتاح
ضمن سياقات عملية التفكيك للمقولة الخلدونية التي مثلت قانوناً وسنّة مهمة في مجالها في ما يتعلق بالبحوث المرتبطة بعلم النفس الجماعي، حينما يتوافر على دراسة الظواهر الجماعية والجماهيرية في هذا المقام، فإنه استكمالاً لتلك السياقات في عملية التفكيك تلك، علينا أن نقوم بتحليل أوسع للكلمة المفتاحية الكائنة ضمن هذا القانون، والتي تتمثّل بمفهوم “الولع”؛ ذلك أن الولع، بوصفه حالة نفسية جمعية، وحالة ذهنية عقلية، إنما ترتبط بكب المسائل التي تزيف العقل والوعي، فتترك آثارها بالجملة وبالتبعية على المواقف والأحكام، حينما يغيب الوعي ويزوّر الإدراك؛ ذلك كله بما يغذّي سلوك التقليد والتبعية، الذي يقع في إطار مفهوم القابلية، والذي أكده ابن خلدون في أكثر من موضع من مقدمته، وأكده المفكر القدير مالك بن نبي في كتاباته، حينما توقفا عميقاً عند مفهوم “الاستعمار” و”القابلية للاستعمار”، وهو ما حدانا إلى تعميم ذلك في سياق المفهوم والقابلية له، وإمكانية معالجة فهم القابلية تلك في سياقات الظاهرة الاستبدادية، “الاستبداد” و”القابلية للاستبداد”.
ونتفق مع ما ذهبت إليه باحثة قديرة في حقل العلوم السياسية والاجتماع السياسي، شيماء حطب، حينما مدّت هذا القانون في المحاكاة والتقليد والقابلية إلى العلاقة المركزية الغربية بفكرة العالمية والنموذج التحديثي الذي وصل إلى أعلى مراحله في طبعته المعولمة؛ في رؤيتها أن فكرة “الولع بالغالب” هي بمثابة الفكرة المفتوحة، التي راكمت اتجاهات ورؤى عديدة، وإن كان بعضها قد وسّع من نطاق التحليل ليشمل الحضارة الغربية (الغالب) في مواجهة الحضارة الإسلامية (المغلوب)، ففكرة جمود الفكر والعقل العربي تستند، بالأساس، إلى تقليد الآخر المنتصر، وجعل نموذجه التحديثي بمثابة النموذج القياسي لمدى تحضّر المجتمعات الأخرى الخارجة عن نطاقه وتمدّنها، إلا أن من المهم التأكيد أن الحضارة الغالبة تسعى لفرض السيطرة والهيمنة على كل الثقافات الأخرى، وبقدر ما يتحقّق لها الانتشار الموضوعي والتقني عبر أنماط الحياة المختلفة والإنتاجين، العلمي والمادي، وبقدر ما تفرض نفسها حضارة عالمية قائدة لعملية تجديد إنتاج البشرية، تعيد تشكيل الواقع الاجتماعي والفكري لدى الشعوب الأخرى على شاكلتها. وفي هذه العملية، ومن خلالها، تجبر الثقافات القومية على التراجع والانكماش (كخط عام، فهناك مقاومات بالطبع) ثم تجبرها على القطيعة النهائية مع الواقع المحلي، خصوصاً إذا نجحت في استقطاب الجهود المبدعة والعملية في تلك المجتمعات بشكلٍ يدفع الجماعة المحلية إلى النظر بسلبيةٍ إلى ثقافتها الخاصة، والاعتقاد بأنها خاوية وجامدة لا حياة فيها، مفتقدة كل القيم الإنسانية الحية العقلية والروحية، والإبداعية.
وتشكّل الحضارة الغربية والمسيطرة اليوم أيضاً تحدياً مستمراً وشاملاً لكل الشعوب الأخرى، علمياً وعسكرياً وسياسياً وتقنياً وصناعياً واجتماعياً وروحياً، مع استمرار هذه الغلبة وتوسع دائرتها وتعمّق الشعور بضخامتها، فيزداد إيمان الشعوب الضعيفة بعجزها وفقر ثقافتها، ويترسخ لديها النزوع إلى الاقتداء وتقليد الغالب في “شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، وذلك لدى الخاصة والعامة معاً، لا فرق في ذلك”.
ومن ثم نتساءل: هل الولع يجري اختزاله فقط في الظاهرة النفسية للذات الفردية، أم أنه يمكن أن يتّسع نطاقها لتصبح جزءاً من ثقافة مجتمع بعينه؟ مؤثراً بالضرورة على فكرة الوعي الجمعي!، وهل السبب في التقليد والانقياد يكمن في الولع فقط، أم أن هناك أسباباً أخرى للاستلاب؟ وهل مغالطة الذات وخداعها أمر حتمي، ويفسّر استمرار غلبة الغالب وخضوع المغلوب؟ فتُحدث هذه الحالة المركبة في قبول حال المغلوبية، بل وفي بعض الأحيان الاحتفاء بها؟!
واقع الأمر، أنه يمكن أن تصبح مسألة التقليد هذه خارجةً عن الإطار السيكولوجي – النفسي، وتصبح جزءاً من ثقافة جماعةٍ ما، وتشكّل جزءاً محورياً من وعيها الجمعي، وبصدد الإشارة إلى مسألة الثقافة التي تتضمّن عمليةً لتشكيل توجهات الجماعة وقيمها ومعاييرها وإدراكاتها. ومن ثّم دفعها في اتجاه سلوك معين، ولا يمكن أن تفوتنا الإشارة، في هذا السياق، إلى مفهوم التنشئة؛ فقد يكون سلوك الأفراد المتشابه نتاج لعملية القسر الاجتماعي داخل الأسرة والمدرسة، أو النظام السياسي.
كما أنّ من الضروري التأكيد أن مفهوم الغالب ـ المغلوب، مفهوم علاقة بين متغيرين، يتوسطهما مفهوم الولع، الذي هو ظاهرة نفسية وحالة ذهنية وعقلية تؤثر في الإدراكات والتصورات، وتتحكّم بالحركة والنشاط والممارسات بالأساس. ويشير إلى التعلق والإعجاب الشديد بشيء والحرص عليه، وقد كانت محاكاة مفهوم العلاقة القائم على الولع أصدق دليلٍ على محوريته في المقولة الخلدونية؛ إذ ينطوي على شكل من أشكال الخضوع وعلاقات القوة. وفي هذا الصدد، ركّز مؤرّخون عديدون على علاقات القوة بين مسيطِر ومسيَطر عليه، غير أنهم اختلفوا مع ابن خلدون في المتغير الوسيط الحاكم لعلاقة الخضوع المنصرف إلى حال الولع الذي هو، عند ابن خلدون، تعظيم الغالب، ومغالطة الذات والاعتقاد بكمال الغالب للهروب من أوجه القصور في المغلوب، أو المغالطة في أن السبب هو ما ينتحله المنتصر من عادات وأسلوب معين في الحياة، وإن لم يتطرّق ابن خلدون في نصّه إلى مسألة الضبط الاجتماعي، أو تحكّم القادة والزعماء في وسائل الضبط الاجتماعي، كما هو الحال في النظم السلطوية كعامل مفسّر للانقياد والاستسلام والتغلب.
مما سبق، يتضح لنا أن الفكرة الرئيسية التي تمحورت حولها المقولة تأتي ضمن إطار فهم ابن خلدون الشامل للظواهر الاجتماعية التي قام بالتمثيل لها على أساس أن التاريخ هو خبر عن الاجتماع الإنساني، فالظاهرة الاجتماعية هي مجموعة القواعد والاتجاهات العامة التي يتخذها مجتمعٌ ما أساساً لتنظيم شؤونه الجمعية، وتنسيق العلاقات التي تربط بعضهم ببعض من ناحية، وبغيرهم من الجماعات من ناحية أخرى. وكما أن للظاهرة الاجتماعية جانباً يتعلق بالقواعد المنشئة للسلوك، حيث تشرف على التنسيق بين جوانب العمل الإنساني، فلها جانبٌ آخر يتمثل بإرسائها قواعد كاشفة للسلوك، بمعنى إرساء نمط معين من التفكير والقيم والاتجاهات التي تتبلور في عقول الأفراد، والظاهرة الاجتماعية كنسق عام يندرج تحت لوائها عدد من الأنساق الفرعية: الاقتصادية والسياسية والأخلاقية، والتربوية، والنفسية، إلخ.
ومن ثم، هذا الوقوف من تدبر مفهوم الولع الذي يشكّل مناخاً عاماً للقابلية لظواهر قد تؤدّي إلى الخضوع والخنوع والتقليد، إنما يمثل قانوناً مهماً في تفسير فعل المستبدّ، واستمرار سياسات طغيانه فترات زمنية، حيث تتراكم تلك الآثار واستخدام الوسائط المختلفة من التربية والتنشئة، والاتصال والإعلام، بحيث تكرّس تلك القابليات، فتضمن تزييف العقول، وتزوير الوعي المتعلق بها؛ ولعل من أهم ذلك ما أشار إليه ابن خلدون في مقولة أخرى “من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِلَ على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقاً، وفسدت معانى الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرّن، وهى الحَمِية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين”؛ وهذا من أخطر أحوال القابلية للظاهرة الاستبدادية.
…..
- 2022-05-27
- المصدر: موقع العربي الجديد