إن الأمم لا تُقاس بكثرة خطبائها، ولا بعدد مآذنها الشاهقة، ولا بما تتغنى به من أمجاد سالفة؛ بل تُوزن بكفّتين: كرامتها في وجه العدو، ويقظتها في وجه الغفلة.
مرارة الهزيمة وضياع المجد
لقد توالت على أمتنا فصول الهزيمة حتى اعتادت طعم المرارة، وصار كثير من أبنائها لا يعرفون من الفخر إلا زيف الشعارات، ولا من المجد إلا سطورًا في كتب المناهج.
وبقيت تبكي على أطلال عزّها قرونا حتّى ابيضّت العيون وعمتْ فما أبصرت ولا فقهت، بل أنكست وخبت!
فقلّ أهل الفخر، ولا فخر إلّا لمن أبى الذّلّ وسلك درب النّصر تعبّده العظام والدّماء!
واعتلّ ميزان الأمّة من نصرٌ وكفن إلى خسر ووهن!
ولعلّ السّبب يعود إلى التّشخيص النّبويّ: الوَهن والفرقة.
تفكك الأمة وسقوط العواصم
وبين الاستكانة والشّتات انفرط عقد الأمّة فضاعت العواصم بضياع البأس، وسقطت البلاد بسقوط السّيف، وغدا المسلم الحرّ الآنف عبدًا ذليلا.
ولكن قبل النّصر هناك النّصرة، وكيف تكون في زمن هوَت فيه القيم، وكثر فيه اللّغط، وتسعّرت فيه الحمم، فكثر الهرج والمرج.
وتخاذُل المسلمين اليوم عن النّصرة أمر عجاب، فالتّراث الإسلاميّ والهديَ النّبويّ والجبلّة العربية تأبى الرّكون والمذلّة، لكنّ طول العيش تحت نيرِ الظّلم، وفي الظّلّ، أعمى البصائر عن الهدى، وأزاغ الفطرة، وكسر الإرادة قبل السواعد، فانتقل مسلمو اليوم من “وأعدوا لهم” إلى “لا طاقة لنا”، واختزلت الشياطين الخرساء المعمّمة المنعمّة في قصور الرّؤساء النّصرة بالدّعاء، وألهبت المشاعر بزخرف الكلام والخطب المقنّعة بأحاديث التّضحية وأمجاد السّابقين، متبوعة بصيحات هي كأصداء الرّعد في فضاء خاوٍ لا امتداد له ولا صدى، ويبقى الأثر في الرمال، صمٌّ عميٌ كالأنعام يخرجون بعد الخطب كالموج يلتطم بالصّخور بلا مقصد ولا غاية!
وتخدّرت الضّمائر تحت لافتة العجز وقلّة الحيلة!
تحريف مفهوم “أضعف الإيمان”
إنّ الإسلام يسطع في دجى اللّيل البهيم ليقيم الحجّة على كلّ متقاعس، على كلّ قاعد ظالمٍ لنفسه بحجة الاستضعاف، بقاعدة خفيفة بسيطة: “أضعف الإيمان” الّتي أرادت أن تفتح البصائر على مرونة الإسلام وفعاليته، مكرسةً فقه الأولويات ومراعية وسع السّاعي.
لكنّها مع طول الأمد، وأفول الدّولة اختُطفَت من سياقها، وفرّغت من مضمونها، وحرّفت عن مواضعها فغدت مخدّرًا لا محفّزًا!
في زمن الهوان والتكالب، وفي وابل من الكلام الذي لا يغني ولا يسمن من جوع، لبس التّخاذل لبوس الإيمان، فتحوّل أضعف الإيمان وأقلّ القليل الذي كان يسعى لمنع جلد المؤمن لذاته والابتعاد عن تبخيس جهده وبذل المتاح في حدود الوسع وسقف الممكن، إلى ذريعة للبقاء في أقلّ مراتب العمل،
وبات يُرفع كشعار مريح لطيف لتبرير النّأي بالنّفس والقبول بمقعد القاعدين المتخلّفين، وتحوّلت من وقود دافع للعمل، وعدم استصغار الخير ولو كان شقّ تمرة، إلى مبرّر للشّلل، وتحوّل من فقه الممكن إلى فقه التّبرير.. ومن شعلة تضيء الدّرب إلى رماد يذرّ في العيون
فقبل المسلم بمقعده مع المتخلفين وهو لا يدري، وأصبح العجز حكمة، والجهاد تهمة، والنّيّة كافية، والصّمت ثورة المستضعف، والدّعاء السّلاح القاصم المانع.
نُصرة الحق لا تعرف المستحيل
إنّ الله يأبى إلّا أن يتمّ نوره، رغم حجب الماكرين، وتدليس المكذبين، فكان الطّوفان الّذي تفجرّ من أرض المسرى، الضّياء الّذي أبان اشكالية المفاهيم الّتي ساوَت الاستطاعة بالقعود، وبذلك حدّت الاستطاعة بمفهوم سلبي غدا دينا لا يُرى غيره، غدا للقدرة حدٌّ لا يتوسّع، سقف يقف عنده المسلم لا يتعدّاه، وهذه الحدود الوهمية أصبحت من العقلية الجمعية للأمة العجوز، حدود محت ثقافة الممكن اللامحدود المتسّع اتساع الكون، الممتد امتداد الفضاء، وغدا الدين الذي أمر بالغرس بين يديّ أهوال الساعة دينا يوقف العمل بسبب الفهم المغلوط بعد قراءة ضبابية للنص القرآني عبر عدسات مشوهة.
إعادة فهم “أضعف الإيمان”
إنّ “أضعف الإيمان”، الذي ورد في الحديث الشريف: “فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” لم يعذُر القاعد، بل أراد من المؤمن أن لا يستصغر عمله وان كان بنيّة صادقة، أن يجاهد الفتن بما يملك، لكن أن لا يقتصد، بل أن يتوسّع بالممكن، ويفسّح الحدود ويفتح السّقوف لسموات وآفاق جديدة، فحدود ثغر ما هي مفتاح لثغر آخر، لا إغلاقًا بحجة اليد القصيرة والحدود المعجزة، إنه حديث يعني أن تعمل بما تملك، وأن تخلق للعمل أطوارا جديدة!
الختام: الإخلاص في الممكن هو مفتاح النصر
ختامًا، ليس المطلوب أن نكون أبطالًا خارقين، ولا أن نملك مفاتيح الدّنيا بأسرها؛ ولكن ما يُنتظر منا أن نعمل بما نملك، أن نصدق في نوايانا، وأن نحمل همًّا لا يسكن حتى نؤدّي حقّ النّصرة بكل ما أوتينا، من أضعف الإيمان كدعاء من أعماق القلب، إلى جهاد اللّسان وقتال بالكلمة، أو مقاطعة تُشهر في وجه الظلم، أو تربية تُغرس في النفوس، أو حتى قهرٌ للفتور الذي يستولي على الرّوح، في وقت تتراءى فيه الأعباء ثقيلة، ويعصف اليأس بالهمم، حتّى يقضي الله أمره، ويمضي سيفه وأسله!
فالـدين الحيّ النّابض، ما ترك عذرًا للمتخاذل، ولم يُخَلِّصَنا من واجبنا بحجة العجز.
وإنما قال في سِيره ونصوصه: “فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به” كما قالها الفاروق رضي الله عنه، و “ارمِ بعصا السّنوار” كما فعل مهندس الطوفان ليُريك كيف أن أضعف الأسباب قد تكون مفتاحًا لنصر عظيم، كيف أن “القليل” إذا أُخلص فيه يصبح قوة لا تُقهر
وكما قال الفاروق: استعن بالله ولا تعجز!