بقلم : ريم سويد
الملائكة ليست مجرد كائنات غيبية ورد ذكرها في النصوص الشرعية، بل هي جزء أصيل من هندسة الوجود الإلهي، تجسّد الجمال في أسمى صوره: جمال الطاعة، والنقاء، والانضباط، والتناسق الكوني.
في عالم يُشوه فيه القبح مظاهر الحياة، يظهر الحديث عن الملائكة كتذكير بأن الجمال ليس حالة نادرة بل هو الأصل، وأن الفوضى ليست القاعدة بل الاستثناء الطارئ.
الجمال في ذكر الملائكة في القرآن
عندما نتأمل في القرآن الكريم، نجد أن ذكر الملائكة لا يأتي سريعًا في السياق أو سرد غيبي عابر، بل يتجلى كإشارة فنية راقية، كأنما يخاطب الله فينا الذوق والروح والعقل.
يصفهم القرآن بأنهم “لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون”، وهي عبارة تتجاوز فكرة الطاعة لتُظهر الجمال المنظّم الذي يحيط بالوجود.
ذكرهم في سياق الخلق والوحي والحماية والموت والحساب، ليس إلا توكيدًا على أنهم عناصر في نظام محكم، يسير بانسجام تام مع مشيئة الله، هم انعكاس مباشر للفعل الإلهي النقي، من حيث الصفاء والاتساق والجمال الوظيفي.
الإيمان بالملائكة: إيمان بالجمال والنظام
الإيمان بالملائكة ليس مجرد ركن من أركان العقيدة، بل هو تبنٍّ لفلسفة كونية تؤمن بأن الجمال والنقاء هما أصل الأشياء، ولذا جاء هذا الإيمان في الترتيب بعد الإيمان بالله مباشرة، وقبل الإيمان بالكتب والرسل لأنك إن لم تؤمن بأن هذا الكون محكوم بالنظام، ويقوم عليه كائنات نورانية، فكيف تؤمن بأن هناك رسالة إلهية أو رسولًا أو كتابًا منظمًا؟
الإيمان بالملائكة هو إذًا إيمان بأن هناك طهارة تسكن هذا العالم رغم ضجيج الفساد، وأن في كل لحظة يوجد من يسبّح الله، ويحرس الخير وينقل الرسالة ويثبت أهل الصدق، هو دعوة لنا للانضباط للتناغم مع قوانين الجمال والنظام الكوني.
بين المدن الفوضوية وبهاء الوجود النوراني
هنا تبرز المفارقة: كيف يتعايش الإنسان في عالم امتلأ بالقبح والعشوائية مع كائنات لا تعرف إلا الطهر؟ كيف تتنزل الملائكة على أماكن هجرت النور وسكنت الظلام؟
إن المدن الفوضوية ليست فقط المدن المليئة بأكوام النفايات والخراب المعماري، بل هي في جوهرها كائنات فقدت ذوقها، طردت النور وسمحت للفوضى أن تعبث بجمالها. القبح ليس مشكلة بصرية بل هو خلل أخلاقي وتشوّه في العلاقة بين الإنسان والوجود.
بالمقابل فإن الجمال ـ كما تظهره صورة الملائكة ـ ليس شيئا للجمال فقط، بل قانون كوني هو البوابة التي تهيئ الإنسان لاستقبال النور فكما أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة، فإنها لا تسكن في الأماكن القبيحة معنويًا، حيث الغش والأنانية، والعنف والتكالب على الدنيا.
الجمال كشرط لحضور الملائكة
يبدأ الجمال من الداخل من نية طاهرة ومن قلب عامر بالسكينة. لكن آثاره لا بد أن تنعكس على الخارج: على مظهر الإنسان، على بيته، على أسلوب كلامه، على ملامح مدينته فالمكان الجميل هو إعلان غير مباشر عن أن هناك من يحترم الحياة.
وعندما يُسأل الإنسان في ضوء إيمانه بالملائكة:
- هل حياتك صالحة لاستقبال النور؟
- هل في بيتك ما يدعو الملائكة للبقاء؟
- هل روحك مهيأة لأن تُصبح موطنًا للطمأنينة؟
فهو بذلك يُمتحن في سلوكه لا في لسانه، في ذوقه قبل منطقه، في علاقته بالجمال كقيمة حياتية.
إن الإيمان بالملائكة يحمل بعدًا جماليًا وأخلاقيًا في الوقت ذاته. فهو لا يُترجم فقط بذكرهم بل بتطبيق مبادئهم: نقاء، انضباط، طاعة خالصة، طمأنينة، انسجام مع قوانين الله.
وفي الحديث الشريف:
“إن الله جميل يحب الجمال” [صحيح مسلم].
هذا الجمال، هو ما يخلق الأرضية الصالحة لحضور الكائنات النورانية، فكلما ازداد المرء جمالًا في سريرته وسيرته، وكلما تحلى بأخلاق الإسلام أخلاق الإنسانية أصبح قريبًا منهم.
نحن والملائكة.. هل نلتقي؟
الإيمان بالملائكة لا يجب أن يبقى في خانة “العقيدة النظرية”، بل يجب أن يكون امتحانًا يوميًا:
- هل نحن أقرب إلى العوالم النورانية أم إلى الفوضى والظلام؟
- هل نمشي في دروب الجمال والنظام؟
- هل بيوتنا ومدننا وأنفسنا بيئات صالحة لنزول الطمأنينة، والسكينة، والنور؟
إن الجمال في نهاية المطاف، ليس زينة نختارها أو لا، بل شرط من شروط الحضور الإلهي في عالم الإنسان والملائكة ليست بعيدة لكنها لا تنزل إلا في الأماكن التي يشبهها أصحابها.